ليس في نيّتي أن أبدأ، ومنذ الآن بإعطاء أيّ نوعٍ من الأحكام والاستنتاجات لكامل مسار هذه الحرب الإجرامية، انطلاقاً من كلّ خلفيّاتها، والكيفيّة التي أُديرت بها، ومراحل تحوّلاتها، والنتائج التي وصلت إليها، وذلك لأنّ مثل هذا الأمر يجب أن يأتي في سياق من التمهُّل قليلاً، وفي سياقِ قراءة متأنّية ومتتابعة ومتّصلة، وفي إطارٍ شامل ومتكامل، وهي قضايا ومسائل ما زالت تحتاج إلى الكثير من المعطيات والتفاصيل التي من دونها، ومن دون تحوّلها إلى وقائع سيصعب تحقيق الأهداف من معالجة كهذه.
لكن وضع أُسس وتصوّرات تكون صالحة من الزاوية الموضوعية، وكمؤشّرات ومعايير متفق عليها عموماً يبدو أمراً ملحّاً لن تستقيم الأمور بمعزل عنه، بل وتبدو أو ستبدو كل معالجة خارج منطق المنهجية المطلوبة وكأنّها قفزة في الهواء.
سأبدأ بمصارحة القُرّاء وما أراه بالعموم وبالإجمال؛ أن هذه الحرب قد انتهت إلى المعادلة التالية:
لم نهزمهم إلى درجة الانتصار عليهم، ولم ينتصروا علينا إلى درجة هزيمتنا.
وهذه المعادلة ــ كما أرى ــ ستبدو ملتبسة إلى أبعد الحدود ما لم يتم تناول ومعالجة كل مسألة تعلّقت بهذه الحرب وفق تحليل عيني وملموس لكلّ مسألة بقدر ما هي مسألة بحدّ ذاتها، وبقدر ما هي مسألة في سياق متصل، بصورة جدلية عميقة و»بنيويّة» بالمسائل الأخرى منها.
أقصد أنّ «مقاصد» هذه المعادلة والتي ستأتي تباعاً في معالجات قادمة تحتاج ــ كما أرى هنا، أيضاً ــ إلى إثارة للمنهج «الأدواتي» وإلى «أسلوبيّة» التناول، ناهيكم عن مفاصلها المكوّنة.
دون الدخول إلى عمق وملموسية هذه المفاصل، فإنّ ثمّة عدّة قضايا ومفاصل ومسائل تحتاج إلى وضعها على جدول أعمال هذه المعالجة، وإظهار مكانتها في إطار هذه المعالجات المرجوّة. ولنبدأ من خلفيات هذه الحرب.
عندما بدأت حركة « حماس » هجومها الهائل والمُبهر مع الساعات الأولى في 7/10/2023، لم يتوقّف أحد عند هذا الحدث الزلزال، وكان ذلك طبيعياً ومفهوماً، ولم تبدأ بوادر المواقف من خلفيّات هذه الحرب إلّا بعد بدء الهجوم الإسرائيلي بعدوان شامل وغاشم أصبح يشكّل مادّة زخمة لتلك المواقف.
وهنا كنّا أمام ثلاثة مواقف على الأقلّ:
الأوّل، مفاده أنّ ما أقدمت عليه «حماس» كان مغامرة تحمل في طيّاتها أخطاراً قد تهدّد الوجود الوطني، وستعطي لدولة الاحتلال الفرصة «التي كانت تنتظرها» للفتك بنا، وتدمير كلّ مقوّمات حياتنا، خصوصاً في قطاع غزّة، لكي تنتقل إلى الضفة الغربية مباشرة، وربما إلى تهديد وجود أهلنا في الداخل.
والثاني، مفاده أنّ هذا الهجوم، كان في غاية الدقّة، وكان واعياً وقصديّاً، وكان استهدافيّاً بمعرفة، وبتقدير محسوب بدءاً من إحداث الصدمة، وصولاً إلى خلق الوقائع الجديدة المطلوبة.
بل وإنّ هذا الهجوم فاتحة لمرحلة جديدة سيكون في نهايتها قد تحقّقت لشعبنا من الأهداف ما يُحبط خطط وبرامج دولة الاحتلال، وما سيؤدّي إلى إرباك برامجه التصفوية للقضية الوطنية، إضافةً إلى تحقيق الأهداف المباشرة الأخرى، بما فيها فكّ الحصار، وتحرير الأسرى، وغيرها من أهداف جرى التطرُّق لها في رسالة القائد العام لكتائب «القسام» محمد الضيف الأولى، وفي إعلام «حماس»، وفصائل المقاومة النشطة في القطاع.
هذه المواقف كانت تعوّل على مراهنات كبيرة على مستوى «محور المقاومة»، وعلى الشعوب العربية والإسلامية، وعلى النظام العربي بحدود معيّنة.
أما الثالث، فكان يتمثّل بأنه لا فائدة حقيقية تُرجى من «الإدانة» قبل انتهاء الحرب الإبادية، ولا فائدة عملية من هذه الإدانة حتى بعد انتهائها، وأنها كان ستقع على كلّ حال، وكانت دولة الاحتلال ستبدأ بها حتماً طالما أنّها كانت قد اتخذت من التحضيرات والتدابير لوضعها على سكّة برنامج «الشرق الأوسط الجديد»، والذي أعطى لها الدور والمكانة الرئيسية في خطة «طريق الهند» الذي أُقرّ في مؤتمر دول العشرين، والذي شطب فلسطين من جغرافية الإقليم كما عرض خرائطه نتنياهو.
وأنّ الحرب لا تقيَّم قبل أن تضع أوزارها، ولا يجوز الاصطفاف، بصرف النظر عن النوايا والمنطلقات في مناطق محايدة أو معادية تحت أي مبرر كان، وأن الشعوب الحيّة تلملم صفوفها في الحروب.
سنناقش كل هذه المواقف لاحقاً، وسنناقش بصورة عقلانية وموضوعية كل اعتبار من هذه الاعتبارات عند الدخول اللاحق في المعالجات الشاملة.
أمّا المفصل الآخر من مفاصل هذه الحرب، فهو النظرة إلى معادلة التوازن بمفهومها الضيّق، أي التوازن بين «حماس» أساساً وبين القوة الغاشمة الإسرائيلية، والتوازن بين مكوّنات ومفاعيل الأزمة الداخلية الإسرائيلية من جهة، وبين الحالة الوطنية بكل مظاهرها المتصدّعة والمنقسمة والهشّة من جهةٍ أخرى، إضافةً إلى توازنات الإقليم والعالم، وهنا، أيضاً، لاحظنا المواقف الثلاثة نفسها.
اعتقد البعض أنّ عدم رؤية الحجم الهائل من الدعم «الغربي» المطلق لدولة الاحتلال كان واحداً من مثالب القصور في الرؤية الفلسطينية التي قدّمتها المقاومة في القطاع، وفي المراهنة على الشعوب ــ أي مثلباً ثانياً ــ وفي المراهنة إلى حدّ الارتهان على فعل «محور المقاومة» مثلباً ثالثاً، وفي عدم رؤية التخاذل العربي رابعاً.
في حين اعتبر الموقف الثاني أنّ الحرب، ومن خلال قوّة الأداء والصمود، ومن خلال إنزال خسائر جدّية في البنية العسكرية لدولة الاحتلال ستؤدّي إلى إحداث تحوّلات كبيرة قد تقلب الموازين رأساً على عقب.
أمّا الموقف الثالث فقد رأى ذلك كلّه دون أن يتوقّع بالضرورة مثل هذا الانقلاب، ودون أن يقلّل من الحقّ في المراهنة عليه.
وفي حين رأى الرأي الأوّل أن العاقبة هي «كارثة» وطنية، ونكبة جديدة، رأى الثاني أنّ الخسائر ليست معيار النصر والهزيمة، فيما رأى الثالث أنّ لا نكبة جديدة، ولكن الكارثة على مستوى الخسائر مسألة جوهرية، ولا يمكن التقليل من شأنها، خصوصاً أنّها ستُلقي بظلالها على حقائق الوضع المستقبلي.
وعلى مستوى الأداء في العمل الكفاحي والميداني، فقد قلّل الرأي الأوّل من فعل البطولة وحوّله إلى نوع «اللازمة» التي يجب أن يتمّ ترديدها لحفظ خطّ الرجعة! ولكنه لم ينتبه أنّ فعل البطولة معيار حيوي من معايير الأداء، كما في كل حربٍ وطنية، وأنّ البطولة في الأداء الأمّ الشرعية للصمود، وأنّ هذه البطولة القابلة الحقيقية لميلاد العصر الجديد في صراع الإرادة الوطنية مع المستعمر، كما رأى أصحاب الرأي الثاني.
أمّا الثالث، فقد مال بالعموم إلى الرأي الثاني واكتفى بتحذير المقاومة و»محورها» من المبالغة من الرغائبية والإرادوية في المعارك الوطنية.
ويمتدّ موضوع الأداء ليطال ويدخل في عمق الأداء السياسي والإعلامي، وحيث يلعب مثل هذا الأداء دوراً محورياً وخاصاً وفريداً، وذلك بالنظر إلى محدودية الوسائل والإمكانيات في الجانب الفلسطيني، في حين أنّ المعركة السياسية قد خاضتها دولة الاحتلال بكلّ ما ملكت أيمانها من قدرات، وبكلّ ما توفّر من إمكانيات مساعدة وداعمة مما لدى «الغرب» من مقدّرات، وحيث استخدم كل ما لديه من وسائل وطرق في الضغط على كل الاتجاهات والمستويات، وحوّل المعركة السياسية لصالح التوجّهات الإسرائيلية وبشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث والمعاصر.
وأمّا على المستوى الإعلامي فقد تجنّد «الغرب» ومعظم منظوماته الإعلامية الجبّارة في خدمة الرواية الصهيونية، وتبنّى بالكامل كلّ الادّعاءات الإسرائيلية وبصورة تدعو إلى السخرية، وبمعايير أخلاقية فارغة ومفرّغة من أي حد من حدود الشعور بالعدالة، وبمسؤولية وشرف الكلمة والصورة، وتحوّل كل إعلامه إلى «سيرك» للتهريج والتزييف وقلب الحقائق، وحيث تجنّد إعلام عربي كامل ومتكامل في خدمة هذا «الغرب».
ناهيكم طبعاً عن الأداء التفاوضي وكل ما أحاط به من «فنون» وجنون، ومن خبائث ومكائد إسرائيلية و»غربية» مقابل أداء المقاومة الفلسطينية تحت ضغوط كل هذه الصورة، وتحت ضغوط «الوسطاء»، وضغوط الرأي العام.
أمّا نتائج الحرب وخلاصاتها في هذه المرحلة منها فهي لن تستقيم إلا في إطار المعالجة والبحث الأبعد بالدخول إلى تلابيب المفاصل التي أتينا عليها كعناوين عامّة حتى الآن، وحينها فقط يمكننا البدء بها في المقالات الكثيرة القادمة.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية