في لمحة تاريخية على توالي الأحداث التي حصلت في حصار بيروت عام 1982م، والتي أفضت لخروج مُقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس، بعد موافقة الرئيس الراحل ياسر عرفات على خطة فيليب حبيب، سُئل يومها الرئيس عرفات سؤلاً من أحد الصحفيين الإسرائيليين، إلى أين أنت ذاهب؟ فأجاب أنا ذاهب إلى فلسطين.
الظروف التي نعيشها الأن في الأراضي الفلسطينية وبعد سبعة وثلاثين عاماً، هي نفس الظروف التي عاشتها منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، فقد صَعدت خلالها قوات الاحتلال الإسرائيلي من هجمتها على منظمة التحرير بهدف إخراجها من بيروت، كي يخلو لها الجو في تنفيذ مجازرها والتي تكللت بمجزرتي صبرا وشاتيلا في الجنوب اللبناني وذلك بعد أن خرجت قوات منظمة التحرير وبقيت المخيمات الفلسطينية بلا حماية، كُل ما سبق يدعونا إلى التفكير مجدداً بالإجراءات التي تسعى وكالة الغوث في قطاع غزة لتطبيقها على المواطنين من خلال فصل عقود موظفيها، نهيك عن الأزمة المالية التي تُعاني منها الفصائل الفلسطينية، والتي بالكاد تُوفر رواتب المنتمين إليها، وكذلك التهديدات الأمريكية بقطع المساعدات والمعونات عن الشعب الفلسطيني، وحسم نسبة من رواتب موظفي قطاع غزة، تلك الإجراءات العقابية هدفها تمرير صفقة جديدة وحلول تلوح في الأفق، للنيل من صمود وجبروت شعب الجبارين.
تعيش القضية الفلسطينية فصلاً جديداً من المعاناة على صُعد مختلفة، فكل المطروح على طاولة الحوار والنقاش، هي إجراءات عقابية وتقشفية، هدفها النيل من رغيف الخبز الفلسطيني، وكأنها حالة مدروسة من أجل تجويع وتركيع ما تبقى من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، من أجل القبول بالحلول الأمريكية المطروحة، والتي رفضتها القيادة الفلسطينية وتابعت الدول العربية رفضها لخطة ترامب " صفقة القرن " لتصفية القضية الفلسطينية، إن مؤشرات فصل المئات من العاملين في وكالة الغوث اونروا، له مؤشرات اقتصادية خطيرة على المدى القريب، فسوف تزيد معاناة الناس في القطاع، نتيجة انعدام وجود فرص عمل جديدة، ونتيجة الحصار الإسرائيلي الخانق للقطاع، ونتيجة الانقسام الفلسطيني، وعدم وجود رغبة فلسطينية لإنهائه حتى اللحظة، كل ما سبق يُنذر بكارثة إنسانية كبيرة في القطاع، تسعى من خلالها إسرائيل لتفجير القنبلة الموقوتة في المنطقة، وشن حرب جديدة على قطاع غزة، تحت ذرائع الحفظ على امن الحدود وحماية سكان المستوطنات المحيطة بالقطاع.
مؤخراً نشط المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ميلادينوف، في زيارات مكوكية بين القاهرة وعمان وإسرائيل وغزة، بُغية التوسط بين أطراف النزاع لمنع اندلاع حرب جديدة في القطاع والتي حذر منها مراراً وتكراراً، بأنها ستكون حرب مدمرة وكبيرة جداً لن يُحمد عقباها، وقد تدخل في أكثر من مرة لإبرام تهدئه بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية مصرية، من أجل منع تنفيذ هجمات إسرائيلية جديدة على المدنيين في قطاع غزة، كما يسعى ميلادينوف، جاهداً إلى تقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية من أجل ابرام صفقة إتمام المصالحة الفلسطينية ، من أجل انقاذ الواقع الإنساني والاقتصادي في القطاع من خلال تمكين حكومة الوحدة الوطنية من عملها، وهو ما يتبلور حالياً في القاهرة تحت مسمى الورقة المصرية، التي تسعى القيادة المصرية لإقناع حركتي فتح و حماس بها من أجل تطبيق وتنفيذ فعلي على أرض الواقع لبنود اتفاق المصالحة.
لم يَعُد بإمكان الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة الصمود أكثر في وجه المؤامرات الدولية التي تُحاك ضده، ولم يَعُد قادراً أيضا على تحمل المزيد من الإجراءات العقابية وتقليص المساعدات وانعدام فرص العمل، فالواقع يُشير إلى تدهور القطاع الاقتصادي، نتيجة شُح السيولة في أيدي التجار، ونتيجة تراكمية لإغلاق معبر كرم أبوسالم في وجه الاحتياجات الأساسية للمواطن، والتي قلصت استيراد المحروقات ومشتقات مواد البناء وغيرها، تتواصل الحرب الباردة التي تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد الفلسطينيين، في حين يتواصل رد الفعل العربي السلبي تجاه تلك الإجراءات، وكأن الأمر لا يعني الا سكان القطاع وحدهم، فعليهم أن يتدبروا سُبل حياتهم من مياه وكهرباء وغذاء، هذا هو الواقع الذي نعيشه في مختبرات الصمود، حيث يتم تهجين الفلسطينيين على ضرورة وتقبل التعايش مع الأزمات الإنسانية، دون الالتفاف للحقوق الوطنية، فقد تبدل سقف المطالب الفلسطينية في الأيام الأخيرة، من وجود مرافق للدولة من ميناء ومطار وحدود وعودة للاجئين و القدس عاصمة لدولة فلسطينية، إلى البحث عن توفير الغذاء والماء والمحروقات وساعات إضافية من وصول التيار الكهربائي لمنازل المواطنين وحياة كريمة، وانتظام صرف الرواتب وتوفير فرص عمل للشباب والخريجين.
لقد أصبح الشغل الشاغل لمواطني القطاع البحث عن الحلول لأزماتهم المتكاثرة بفعل السياسات الدولية الخاطئة تجاههم من جانب، ومن الجانب الآخر تَولد لدى مواطني القطاع ايمان مُطلق بأن الفصائل الفلسطينية قادرة على صناعة مستقبل مشرق لهم ولأولادهم فقط، في حين أن الواقع يقول إنها عاجزة تماماً على صناعة المتغيرات، وتحقيق أدنى متطلبات الحياة لباقي سكان قطاع غزة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية