صحيح أن إسرائيل انتصرت في الحروب التي "خاضتها" منذ النكبة وحتى يومنا هذا، ولكن كل هذه الحروب مبهمة. فحرب العام 1948 والتي تسميها إسرائيل بحرب الاستقلال كانت حرباً مبهمة إلى أبعد الحدود.
الجيوش العربية تدخلت في التوقيت الخاطئ، وبالشكل الخاطئ، والأهم من ذلك أن تحكّم هذه "الجيوش" بقرار الحرب كان هو العنصر الحاسم في الانتصار الإسرائيلي.
لم تكن البلدان العربية تملك قرارها ولا إرادتها، هذا لم نقل أن تلك الجيوش قد سهلت لإسرائيل ذلك الانتصار المزعوم حتى وإن خاضت بعض تلك الجيوش معارك جانبية شرسة وأظهرت بطولات نادرة في القدس ـ كما فعلت قطاعات من الجيش الأردني، وحتى لو أن المقاومين الفلسطينيين حاولوا أن يكسروا تقدم "القوات" الإسرائيلية كما فعل القائد الوطني الكبير عبد القادر الحسيني في معركة باب الواد.
باختصار لم يكن الانتصار الإسرائيلي في تلك الحرب حاسماً إلاّ بالقدر الذي كان فيه الدور العربي هشاً وعاجزاً وكاريكاتورياً بكل معنى الكلمة.
ولم يكن هذا الانتصار ممكناً لولا أن الدور الفلسطيني كان محاصراً ومهمشاً بالكامل.
أما في العام 1956 فقد كانت الحرب مبهمة أكثر، فلم يكن لإسرائيل أي دور سوى محاولة للبقاء قليلاً في غزة انتهت إلى إجبار إسرائيل على الانسحاب الكامل من سيناء في آذار 1957، وانسحبت القوات البريطانية والفرنسية من مدن القناة بعد التهديد السوفياتي المباشر لها، وكانت تلك الحرب هي بوابة أفول نجم الاستعمار التقليدي لفرنسا وبريطانيا، وظهور القوى الجديدة التي حكمت المنظومة الدولية حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية القرن العشرين.
إسرائيل لم تخض حرباً بالمعنى المباشر للكلمة، لأن القوات المصرية كانت قد انسحبت من كامل سيناء خوفاً من التشتت والتطويق.
أما في العام 1967 فقد انتصرت إسرائيل انتصاراً مدوّياً من دون أن تخوض الحرب على أرض الواقع.
انسحبت القوات السورية بالكامل من الجولان، وانسحبت القوات المصرية إلى خط الدفاع الثاني، وقاتلت القوات الأردنية في معركة القدس كمعركة خاصة وتكتيكية في اطار خطة الانسحاب.
المواجهات لم تكن سوى معارك محسومة سلفاً، ولم تكن إلاّ لفترات قصيرة، وكانت القوات العربية مكشوفة بالكامل، وكانت الحرب هي حرب اصطياد القوات العربية وتدميرها، أثناء انسحابها وهروبها الفوضوي من المعارك.
لم يكن هناك أية مواجهات كبيرة وجادة.
المواجهات الحقيقية بدأت بمعركة الكرامة، وكانت نتيجتها هزيمة مدوّية لإسرائيل على الرغم من محدودية المعركة بالمقياس الاستراتيجي.
تلتها حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية ومدن القناة وقد خسرتها إسرائيل على الرغم من لجوء الجيش الإسرائيلي إلى قتل المدنيين المصريين، ما أجبر المصريين على إجلاء ملايين المصريين إلى ما وراء خطوط القصف المباشر.
كان قتل المدنيين المصرين هو الأسلوب الذي حاولت به إسرائيل التخفيف من حجم العمليات المصرية ضد الجيش الإسرائيلي.
انتهت حرب الاستنزاف بأن دشنت مرحلة تغيير قواعد الحرب، واستطاع الجيشان السوري والمصري أن يلحقا هزيمة كبيرة بإسرائيل قبل تدخل الولايات المتحدة المباشر في الحرب، وقبل انفصال الجبهتين المصرية والسورية عن بعضهما البعض، وقبول السادات المفاجئ بوقف إطلاق النار.
فقط بهذه الطريقة استطاعت إسرائيل أن تعوض عن خسارتها للحرب، وأن تعيد لقواتها القدرة على البقاء فاعلة ميدانياً، على الرغم من أنها فقدت السيطرة في تلك الحرب وكادت تؤدي إلى هزيمة أسوأ بكثير من هزيمة العرب في حرب حزيران.
أما حرب العام 1982 فلم تتمكن إسرائيل خلال ثلاثة أشهر متواصلة من القصف البري والبحري والجوي أن تزحزح المقاتلين شبراً واحداً في حصار بيروت، على حد وصف الشاعر محمود درويش، ولولا ضغط "الحالة اللبنانية" لما انسحبت القوات الفلسطينية أصلاً.
أما في حرب العام 2006 فقد انكشفت القوات الإسرائيلية في المواجهة وتعرضت لضربات موجعة، والإنجاز الذي حققته قواتها كان تدمير المدن والمخيمات والبنى التحتية، والضغط على لبنان من هذه الزاوية.
كانت نتيجة الحرب ضد قوات الثورة الفلسطينية بدء حرب استنزاف عنيفة للقوات الإسرائيلية انتهت بهروب القوات الإسرائيلية "فجراً" من لبنان، وكانت حرب العام 2006 التي دامت أكثر من شهر كامل بداية تحولات كبيرة في معادلة الحروب الإسرائيلية، إذ نقلت الحرب جزئياً إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وحتى حروب غزة أعادت الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى واجهة الأحداث، والآن يتم الحديث علناً ومباشرة عن أن هذا التحول بالذات أفقد إسرائيل الكثير من "مزايا" "الانتصارات" الإسرائيلية في حروبها السهلة وحروبها المبهمة.
إذن لم تخض إسرائيل حرباً واحدة اضطرت معها للمواجهة المباشرة، وانتصرت انتصاراً حاسماً فيها، إن لم نقل أُجبرت فيها على القبول بنصف انتصار أو ما يعادل نصف هزيمة.
الهزيمة الكبرى الحقيقية في حزيران أو ما تسميه إسرائيل انتصارها المدوّي تبدّد في حروب جزئية بعد العام 1973، والذي دشن نهاية الحروب الكبيرة وبداية الحروب الصغيرة، حيث لم تتمكن إسرائيل حتى يومنا هذا من ربح حرب واحدة فيها.
أما الحروب القادمة الكبيرة والصغيرة فقد باتت حروباً مبهمة أكثر مما كانت عليه الحروب الإسرائيلية السابقة كلها.
هزيمة الأنظمة وهزيمة النظام العربي لا يعني انتصار إسرائيل، لأن هؤلاء لم يحاربوا، وعندما حاربوا جدياً كادت إسرائيل تُهزم هزيمة ساحقة.
الانتصار الحقيقي لإسرائيل كان وما زال في منع المواجهة، ومنع المواجهة كان وما زال قراراً للأنظمة والنظام.
أما قرار المواجهة فهو قرار يمكن أن يتحول إلى قرار للشعوب. 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد