رغم أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو أمضى أطول فترة في مقعد رئاسة الحكومة الإسرائيلية، منذ أن فاز به وكأول رئيس حكومة في الاقتراع المباشر عام 1996، إلا أنه مع ذلك لا يبدو لا بحنكة ديفيد بن غوريون، ولا بدهاء مناحيم بيغين، ولا بمكر شمعون بيريس، بل إنه لا يبدو أكثر اتزاناً من نظيره الأميركي دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وبالنظر إلى العلاقة «التاريخية» بين أميركا وإسرائيل، فإن وجود رئيس ساذج هنا، كان يمكن لوجود رئيس عميق الرؤية هناك أن يقلل من مضاره، وهذا حدث حين تجاور في الحكم، كل من أسحق شامير، سلف نتنياهو في زعامة الليكود، مع جورج بوش الأب عام 1990 عشية مؤتمر مدريد، حيث اضطر الرئيس الأميركي الخبير أن يجبر رئيس الحكومة الإسرائيلية «الأيديولوجي» والمتطرف على الذهاب الى مدريد صاغراً.


أقل وأبسط ما يمكن أن يقال في حق الرجلين: نتنياهو وترامب، هو أنهما يفتقران إلى الرؤية الإستراتيجية أو بعيدة النظر والمدى في السياسة، والتي عادة ما يجب أن يتمتع بها القادة الذين يظهرون في المحطات الفاصلة، أو في لحظات الانعطاف التاريخي التي تحتاج لاتخاذ قرارات تاريخية جريئة، وهما أشبه ما يكونان بمديري شركات، يسيرون أمورها وفق القرارات الإدارية اليومية، لا أكثر ولا أقل، لذا فإن ترامب الذي ما فتئ منذ دخل البيت الأبيض وهو يعلن مع جوقة مساعديه أنه يقوم بإعداد صفقة للعصر في الشرق الأوسط، دون أن يتمخض جبله السياسي ولا حتى عن فأر سياسي، كذلك ها هو يذهب إلى سنغافورة، وهو لا يعلن أكثر من أنه ينوي أن يعرض على الزعيم الكوري الشمالي مقايضة النووي بالهامبورجر!


أما نتنياهو، فهو يضيق ذرعاً بطائرات غزة الورقية، وآخر ما أعلن عنه هو أنه ينوي أن يستقطع من أموال المقاصة التعويضات التي يطالبه بها فلاحو ما يسمى بغلاف غزة، الذين اندلعت الحرائق في حقول القمح خاصتهم، بسبب تسخين جبهة الحدود مع قطاع غزة!


لا ينظر رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي أمضى في الحكم نحو خمسة عشر عاماً، أبعد من أنفه، أو أبعد من بين قدميه، وإلا لفكر في أنه ما دام لا يبدي أي استعداد لإنهاء احتلاله لنحو خمسة ملايين فلسطيني، يقاربون في تعدادهم عدد سكان «دولته» فضلاً عن وضع حد للتفرقة العنصرية داخل «دولته ذاتها» والاعتراف ب النكبة وبحق الفلسطينيين اللاجئين في العودة، والذي لا يقل عن الاعتراف بالمعنى الإنساني بالمحرقة أو بإبادة الأرمن، أو غيرها من كوارث بشرية حلّت ببعض الشعوب بسبب من ارتكاب جرائم الحرب، فإنه سيظل رئيس حكومة «صغير»، وما دام ليس هناك حل للاحتلال فمن الطبيعي أن يستمر الصراع التاريخي بين إسرائيل وفلسطين، ولا بد أن يظهر فصل جديد لهذا الصراع، بعد الفصل الذي مضى وشهد في أوله اندلاع الكفاح المسلح، ثم الانتفاضة ثم المفاوضات.


جدير بالذكر أن كل فصل من فصول الصراع، يظهر في حقبة زمنية وفي ظل ظروف إقليمية ودولية مختلفة، تؤثر عادة على مظهره العام وعلى أهدافه المعلنة وعلى أدوات كفاحه، لكنها لا تقف حائلاً دون ظهوره أو انطلاقه، وفي التجربة الخاصة بنا يمكن الحديث عن أكثر من فصل من فصول الصراع التاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.


ظهر أول فصل في ظل الانتداب بين جماعات الثوار الذين كانوا عبارة عن أفراد منفصلين في كل منطقة جغرافية، مسلحين ببنادق بدائية، وغير مدربين ولا منظمين في مواجهة جماعات صهيونية مسلحة ومنظمة، ولديها معدات عسكرية من مدافع وعربات وغيرها، ثم كان الفصل الثاني خلال العام 1948 بين المنظمات الصهيونية المسلحة التي كونت جيش إسرائيل لاحقاً والجيوش العربية التي دخلت فلسطين وكانت بمجملها أقل عدداً وعتاداً من تلك الجماعات.


ثم تحول الصراع إلى عربي/إسرائيلي ما بين عامي 1948_1967، وكان في طابعه الأغلب سياسياً، إلى أن ظهر الفصل الثالث من الصراع، حين ظهرت المقاومة الفلسطينية المسلحة 1965/1967، والتي صارعت إسرائيل عسكرياً من خارج فلسطين وكذلك قارعتها سياسياً في ظل دعم عربي إقليمي من نظام التحرر العربي، ودولي من المعسكر الاشتراكي.


لكن الحرب الباردة وانقسام العالم العربي بين معسكري الشرق الداعم لحركة التحرر العربي، والغرب الداعم لإسرائيل حال دون ظهور الدولة الفلسطينية وبالتالي دون أن تكون تلك الدولة ثمرة الحل الوسط، ولكن ذلك لم يمنع رغم الهزيمة العسكرية للنظام العربي ورغم تفكك الشرق وهزيمة الثورة المسلحة وخروجها من بيروت، أن تعيد الانتفاضة الشعبية الاعتبار السياسي للقضية الفلسطينية وأن تحقق بالتالي المكاسب السياسية.


عدم التوصل للحل الوسط يعني عدم إغلاق ملف الصراع، ويعني أنه قد انتقل بنا من فصل مضى إلى فصل جديد، ورغم أن الفصل الثاني من الصراع الذي شهد إعلان قيام دولة إسرائيل، لم يلحق الهزيمة الكاملة بالجانب الفلسطيني، حيث بقيت الضفة و القدس وغزة غير محتلة، فإن ذلك ساعد في ظهور «م ت ف» وجيش التحرير في غزة، وبالتالي أنشأ فكرة فلسطين ككيان سياسي، ثم كان من نتائج الصراع خلال الفصل الثالث، أن تعززت فلسطين في الواقع السياسي الدولي، بحيث أن المجتمع الدولي كله مقتنع بضرورة قيام الدولة الفلسطينية.


أي أن الفصل التالي دائماً ما يتقدم بالملف خطوة إلى الأمام، ذلك أنه مجرد عدم رفع الراية البيضاء، ومجرد عدم إغلاق ملف الصراع، ينطوي على انفتاح الأفق لتحقيق تقدم بالنقاط، وهذا ما يمكن لحظه الآن، فرغم أن إسرائيل سعت من انسحابها من غزة عام 2005 أن تخرجها من مجرى الصراع على الأرض مع الضفة والقدس (موضوع الدولة المستقلة)، مع القيام بفرض الحصار عليها لإنهاكها ومنعها من القيام بدور الرافعة الكفاحية، إلا أن مسيرة العودة أظهرت الفشل الإسرائيلي في هذا المنحى، بل وكما ظهرت الانتفاضة الأولى عام 1987، بعد خمس سنوات من الخروج من بيروت، وبعد أن ظن البعض أن مكانة «م ت ف» قد تآكلت في قمة عمّان 87، جاءت الانتفاضة، والآن تجيء مسيرة العودة لتعلن بدء فصل جديد من الصراع مع إسرائيل، أبرز مظاهره هو فتح ملفات اللاجئين والقدس، والـ 48، بل والعودة إلى نقطة البداية، التي كان عليها أيام الانتداب البريطاني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد