لا شك أن مسيرات العودة والحركة الشعبية الواسعة والمستمرة لفترة طويلة أزعجت إسرائيل كثيراً ووضعتها في موقف لا تحسد عليه على المستوى الدولي بإعتبارها قوة إحتلال بربرية تطلق النار بكثافة وبدون تمييز على مواطنين يتظاهرون بشكل سلمي ويعبرون عن حقوقهم الوطنية والإنسانية المصادرة بفعل الإحتلال والحصار، ولكن هذه  المسيرات وهذا الحراك الجماهيري غير المسبوق لم ينتجا ما أراده الناس في غزة حتى لو كان من السابق لأونه تقييم نتائج هذه العملية النضالية. والسبب الرئيس هو عدم وحدة الأدوات القيادية في غزة والضفة وبروز مطالب جزئية تتلخص في رفع الحصار بعيداً عن الحقوق الوطنية والسياسية الكبرى المطروحة كشعار رئيس للمسيرات، وأيضاً للتوجه الدولي والإقليمي العام في النظر إلى مشكلة قطاع غزة كمشكلة إنسانية فقط تعالج في إجراءات تخفيف الحصار إو إزالته بشكل كبير.


وأخطر ما في الموضوع هو إجهاض الحركة الشعبية وتحويلها إلى مكسب لفصيل واحد هو حركة « حماس » التي تريد الحفاظ على سلطتها في غزة عبر اتفاق هدنة طويلة يبقي على الوضع الراهن الإحتلالي مقابل رفع الحصار عن غزة ومد السلطة الفعلية هناك باكسجين للإستمرار في حكم غزة والإفادة من الموارد المتوفرة لصالحها بدرجة اساسية. وهذا خطر كبير على المشروع الوطني لأنه يبقي على الإنقسام ويقضي على فكرة الدولة الوطنية المستقلة في كامل الإراضي المحتلة وعاصمتها القدس ، بل هو يساعد إسرائيل تماماً في تهويد القدس وفرض السيادة على أجزاء واسعة من الضفة الغربية بعد توسيع نطاق الإستيطان وزيادة عدد المستوطنين في غالبية المناطق المصنفة (ج) حسب اتفاق « أوسلو».


ويمكن رؤية التمهيد للهدنة القادمة بتخفيف وتقليص المشاركة الشعبية في التظاهرات والمسيرات في غزة بعد قرار داخلي اتخذته» حماس» في الفترة الأخيرة ،وقد لوحظ في الجمعة الأخيرة اخفاض نسبة مشاركة الجماهير في المسيرات على الحدود بصورة ملموسة. ويبدو أن الحرب التي تدور الآن بعد عمليات القصف الإسرائيلي التي أوقعت أربعة شهداء في مواقع لحركتي «الجهاد الإسلامي» و «حماس» وقيام حركة «الجهاد» بقصف البلدات الإسرائيلية في غلاف غزة هي الأخرى من ضمن عملية التمهيد. وبالرغم من التهديدات الإسرائيلية برد قاس وكبير لا يبدو أن إسرائيل تريد حرباً واسعة وهي معنية بالهدنة التي تدور حولها وساطات إقليمية ودولية. ولهذا ربما يكون الرد الإسرائيلي المحدود ورد فلسطيني محدود هو الآخر يكفي بالغرض للوصل إلى الهدنة المنشودة.


الهدنة التي تريدها إسرائيل لم تعد تشترط نزع سلاح «حماس»  وهو ما كان  شرطاً مسبقاً في الحوارات والوساطات السابقة، والحكومة الإسرائيلية وافقت على الإبقاء على سلاح «حماس» شرط عدم استخدامه وعدم بناء الأنفاق والحفاظ على أمن إسرائيل مع قطاع غزة وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» بتبادل أسرى ولكن ليس كما في صفقة «شاليت». ويظهر أن العديد من الأطراف الدولية المتورطة في الوساطة والمدفوعة بالبحث عن حلول إنسانية للوضع المأساوي في غزة ساهمت في تحقيق تخفيف في الشروط الإسرائيلية.


وحدهما السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير غائبتان عن الحل الذي يجري البحث بشأنه، وهذا بعد أن رفضت القيادة الفلسطينية مقترحاً توافق عليه إسرائيل والولايات المتحدة يقضي بعودة السلطة إلى غزة والسيطرة على الأمن الداخلي والمعابر والجباية وإدارة الشؤون الداخلية وترك موضوع سلاح الفصائل جانباً. وهكذا تصبح السلطة خارج إطار المعادلة الجديدة برغم حديث جميع الأطراف عن السلطة كإطار شرعي معترف به والرغبة في عدم تجاوزه. وبدل من حولها إلى الحل تصبح جزءاً من المشكلة بتطبيق سياسة العقوبات على غزة.


الآن تعمل اللجان التيشكلتها اللجنة التنفيذية للمنظمة على بحث موضوعات غزة والمصالحة الوطنية والموقف الفلسطيني العام من التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني، وهذه اللجان ربما تشكل فرصة أخيرة لتحديد خطوط المستقبل بالتقدم بشكل جدي بحلول لكافة هذه المسائل وبشكل يعيد إحياء فكرة المصالحة الوطنية على أرضية تسليم السلطة والشراكة السياسية وليس كل شيء أو لا شيء. والتوقع أن يكون هناك زخم كبير في معالجة هذه الملفات خاصة بعد شفاء الرئيس وعودته لمزاولة مهامه.


وإذا أخفقت القيادة الفلسطينية في قيادة الشعب الفلسطيني نحو الوحدة وبر الأمان وتركت المجال مفتوحاً لصفقات إقليمية ودولية بعيدة تماماً عن الإستجابة للحقوق الوطنية لشعبنا وخاصة إنهاء الإحتلال والحصول على الحرية والإستقلال الناجز في دولة مستقلة وذات سيادة في الاراضي المحتلة منذ الرابع من حزيران من العام 1967، ستقصي نفسها تماماً عن أن تكون اللاعب الرئيس والمقرر في مصير الشعب وقضيته الوطنية وستقوي فكرة الإنفصال والتقسيم النهائي وتنفيذ ما يشاع أنه صفقة القرن القائمة أساساً على دولة في غزة وتقاسم في الضفة وبقاء السيطرة الإسرائيلية على القدس وشطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين. صحيح أن ليس كل شيء بيد القيادة وأن هناك أطرافاً في «حماس» تريد ضمان بقاء سيطرة الحركة على غزة بكل ثمن حتى لو أدى ذلك إلى ضياع القضية والحقوق، ولكن مسؤولية القيادة إيجاد الحلول وتذليل العقبات وبذل كل جهد ممكن لإنقاذ شعبنا وتحقيق وحدته الوطنية والإبقاء على شعلة نضاله الموحد من أجل حقوقه العادلة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد