عطفاً على ما قلناه الأسبوع الماضي فإن الدروس الكثيرة التي يمكن تعلمها من النكبة مازال التذكير بها مهماً خاصة في ظل حالة الانغلاق الداخلي الفلسطيني والعجز عن فهم مثل هذه الدروس الذي يبديه البعض.  


ومثل كل التجارب في التاريخ فإن عدم التعلم منها يعني أنها لم تقع على المستوى الحسي للشعوب، لأن تلك التجارب التي تصيبنا حقيقة هي التجارب التي نحاول تجاوز كل الأخطاء التي صاحبتها، وما لم نفعل ذلك فإننا ببساطة نقر بأنها لم تكن ذات أثر بأي حال من الأحوال. 


بكلمات بسيطة فإن النكبة بما مثلته في الحالة الفلسطينية صاحبها الكثير من الدروس التي يجب التوقف أمامها مطولاً.


علينا دائماً التذكير بضرورة إعادة الاعتبار للنكبة في خطابنا مع العالم الخارجي، فالنكبة هي أساس المشكلة الفلسطينية وليس احتلال إسرائيل لقطاع غزة والضفة الغربية. 


اللحظة السوداء التي تم خلالها تهجير الشعب الفلسطيني من بلاده ومحاولة اقتلاعه منها وإقامة كيان آخر على أنقاضه وأحلامه هي اللحظة الحقيقية لميلاد الأزمة الفلسطينية، ولم تكن كل الأحداث التي وقعت بعد ذلك، وهذا يشمل احتلال إسرائيل لبقية فلسطين وبعض المناطق العربية، إلا من تبعات ما حدث خلال النكبة، بمعنى لولا وقع الحدث الأكبر لما وقع الحدث الأصغر. فالنكبة هي أساس كل شيء، ولا يستقيم حل الصراع إلا من خلال إيجاد حل لما وقع وقتها. 


يبدو هذا الحديث مهماً لأننا في خضم البحث عن "الممكن" والتأقلم مع "المتاح" ومحاولة إقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء من أرض الآباء والأجداد ضاعت في خضم كل هذا أرض الآباء والأجداد وتعثر الممكن وتقلص المتاح ولم تقم الدولة بالشكل المطلوب. 


البحث عن الجزء لا يعني نسيان الكل. ومن المؤكد أن آباء الوطنية الفلسطينية لم يكن هذا في بالهم حين تحدثوا عن الحلول المؤقتة ولا عن الدولة الممكنة، ما كان يشغلهم هو أن يكون لنا وجود على أرض الآباء والأجداد حتى لا نذوي في المنافي خاصة بعد تضيق الخناق علينا من قبل الصديق قبل العدو والقريب قبل البعيد. 


كانت الفكرة هي البحث عن موطئ قدم يصلح للانطلاق نحو بقية البلاد. تحرير الجزء أول مراحل تحرير الكل، وهذا منطق سليم، لكن لم يكن الخطأ في المنطق نفسه، بل في الكيفية التي فهم فيها العالم هذا المنطق. 


كما أسلفنا فقد تم نسيان الكل في الخطاب وبات التركيز على الجزء، ومرد ذلك أننا كنا بحاجة لمصادقة المجتمع الدولي على روايتنا المطلبية حول هذا الجزء فلم نقم بالتركيز على خطاب الكل الذي سيتم تحصيله لاحقاً بل بتنا نشدد على أن الجزء (الضفة الغربية وقطاع غزة) هو العالم الذي نرجو أن نحقق من خلاله أحلامنا وهو السجادة السحرية التي سنطير بها نحو المستقبل. 


هذا لم يعن أننا لم نعد مهتمين أو  معنيين بالأمر، ولكن لأننا اعتقدنا أن كسب الأصدقاء في العالم الخارجي وتجنيدهم لصالح مطالبنا الممكنة يتطلب منا التركيز على جوهر المشكلة وفق مطالبنا الجديدة فإن خطاب الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة هيمن على تفسيرنا للمشكلة. 


ومع هذا ظل خطاب اللاجئين والعودة إلى فلسطين جزءاً مهماً رغم ذلك، ولكن أيضاً بات يتم إعادة موضعة هذا الخطاب ضمن النسق العام للمطلوب، بمعنى بات يتم البحث عن حل ضمن حدود الدولة الفلسطينية العتيدة التي يمكن للمجتمع الدولي أن يقبل بها، أو عودة رمزية أو التركيز على الشق المتعلق بالتعويض في القرار الأممي 194. 


أما خطاب النكبة فقد تراجع من كونه خطاباً مرتبطاً بمطالب إلى خطاب تضميني في المسرودات الوطنية التاريخية. 


على الأقل هكذا فهم العالم خطاب النكبة في ظل عدم ربط هذا الخطاب بفكرة استعادة البلاد وإقامة دولة مستقلة عليها. 


بات مثل خطاب سكان القارة الأميركية الأصلية وهو خطاب في لحظة تبناه الرجل الأبيض من باب التكفير عن الذنب وربما استعادة ألق ونشوة الانتصار. 


وربما كان هذا في جزء كبير منه من خطة الإبادة التي تعرض لها شعبنا الفلسطيني في تلك اللحظة السوداء من التاريخ: أن نتحول إلى مجرد ذكريات مؤلمة قد تخز ضمير المستعمر وهو يتذكر مجازره ضد الشعب الذي أباده. العالم وجد في خطاب الاحتلال صيغة مقبولة لأنه يشرعن لإقامة إسرائيل ولا يتحدث عن كل ما سبق لحظة الاحتلال، أو على الأقل هذا ما ميز هذا الخطاب من وجهة نظره. 


فاحتلال إسرائيل للضفة والقطاع هو أساس المشكلة الفلسطينية التي يجب أن تكون في انسحاب إسرائيل من هذه المناطق حتى يتمكن الفلسطينيون من إقامة دولتهم بشكل حقيقي على هذا التراب الذي بات في أعراف المجتمع الدولي هو مهد الحلم الفلسطيني. 


طبعاً ثمة الكثير من العوالق لكل ذلك منها أن القانون الدولي والقرارات الأممية باتت تشير إلى هذا الانسحاب بوصفه مطلباً دولياً حتى تنهي إسرائيل جريمتها بحق الشعب الفلسطيني، ولم يعد إلى إشارات عابرة عن الحقوق غير القابلة للتصرف والمشروعة للشعب الفلسطيني وكاد القرار 194 يختفي في زحمة القرارات التي تعلي من قيمة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. 


النتيجة الأخطر في كل ذلك أن إسرائيل بدورها واصلت الإصرار على أن هذه المناطق ليست مناطق فلسطينية، بل مناطق متنازع عليها معهم. 


وواصلت بمكابرة استخراج الرواية التاريخية والتوراتية التي تدفع مطالبها في بعض مناطق الضفة قدماً للأمام فيما تتوارى الرواية التاريخية الفلسطينية خلف ستار الممكن والمتاح. 
بعبارة أخرى فإن فكرة التأسيس لخطاب نكبوي فلسطيني وقعت في مرحلة ضحية الخطاب السياسي الباحث عن الممكن. 


وربما عدم النجاعة في المزاوجة بين المطلب والخطاب كانت من العثرات التي لابد من البحث عن سبل تجاوزها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد