مشكلة " مسيرة العودة "، المستمرة منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، أنها جاءت في ظرف ينقسم فيه المكون السياسي الفلسطيني انقساماً لم يسبق له مثيل منذ سبعة عقود، منذ نشوء المسألة الفلسطينية. فقد تمكنت إسرائيل ببراعة متقنة من استدراج أجزاء هذا المكون نحو استعداء ذاته بشكل أكبر من استعدائها، وفي هذه الحالة فإن قدرة الفلسطينيين على استثمار الحركة الشعبية أقل كثيراً من تدفقها.
حيفا، أول من أمس، كانت تهتف "بالروح بالدم نفديك يا غزة "، في الوقت الذي كانت غزة تقدم الدم واللحم المحروق على بوابات القدس في الذكرى السبعين للنكبة. فما تحقق في الأيام الأخيرة لا يمكن إغفاله و'ن قلل تصدر حركة " حماس " للمشهد وبعض التصريحات غير المسؤولة لبعض قياداتها، والتي استغلها الإسرائيلي بعناية فائقة لتذخير دعايته التي تساقطت على الفضائيات بالبث المباشر، لكن ذلك لا ينفي أن القضية الفلسطينية كانت الأكثر حضوراً على المستوى الدولي خلال الأسبوع الماضي، وعادت إلى أصولها كشعب تحت الاحتلال، وأعادت صورة الجندي القاتل للمدنيين بلا رحمة، وهو ما كان مدعاة للشعور بالعار لدى بعض الصحافيين الإسرائيليين، أمثال: جدعون ليفي وعميرة هاس وميخال سيلع التي اعتزلت الكتابة.
هل تصور أحد أن تمر ذكرى النكبة دون فعل؟ وهل لنا أن نتصور أن يمر اليوم الأسود بنقل السفارة الأميركية إلى عاصمتنا القدس دون أن يتحرك الفلسطينيون؟ هنا قيمة ما فعلته غزة وما دفعته من ثمن فادح، لكنها سجلت استئنافها على حكم التاريخ الظالم في أشد لحظاته سواداً، وهي تعرف أنها تواجه عدواً لا يتورع عن القتل. لقد أدهشتنا وهي تفعل المستحيل فقد قيل في السنوات الأخيرة: إن الكفاح السلمي لم يعد قابلاً للتحقق في غزة التي انسحب الإسرائيلي من داخلها وأغلق بواباتها وتمترس خلف جدار شائك وأقام ثكنات حصينة لا يظهر منها سوى فوهات البنادق، وأن الكفاح الشعبي فقط يصلح في الضفة.. كان هذا مسلماً به، لكنها كسرت المعادلة.
ظهر الجيش الإسرائيلي، الذي يحاول أن يصف نفسه بأنه جيش أخلاقي، وهو يتسلى بمراهنات جنوده بقنص الأطفال، اجتماع مجلس الأمن ليس مهماً لأنه لم يستطع اتخاذ قرار نظراً للهيمنة الأميركية التي حولت الشركاء إلى مجرد ديكور في المجلس، واجتمع وزراء الخارجية العرب ومجلس حقوق الإنسان، الذي قرر تشكيل لجنة تحقيق، والقمة الإسلامية، وظهر هذا القدر من التعاطف مع القضية الفلسطينية التي كانت تتعرض أو يتم تجهيزها للانقضاض عليها غير آبهين بالفلسطينيين لتخرج غزة رافضة ومعلنة التمرد.
إن ما تحقق على المستوى الدولي لهو مهم في هذه اللحظة بالذات، قال صديقي الذي هاتفني من كاليفورنيا صباح الرابع عشر من أيار: "غزة الخبر الرئيسي الذي سيطر على وسائل الإعلام الأمريكية منذ ثلاثة أيام". هذا بالتأكيد يشجع على استمرار حالة الفعل الجماهيرية التي تحققت بعد هذا القدر من الإحباط الذي ساد في السنوات الأخيرة، رغم أنه لا أحد توقع أن تكون أعداد الضحايا بهذا القدر، وهو ما يجعلنا ندعو لفحص الأمر فلسطينياً لتشكيل لجنة لفحص الوقائع والتحقيق في الأمر؛ للاستفادة من هذه التجربة التي حركت العالم بمؤسساته الرسمية والشعبية؛ لضمان استمرارها كوسيلة للوقوف في وجه استهداف القضية، والعمل على توسيع رقعتها لتشمل الضفة الغربية والقدس وكل اللاجئين الفلسطينيين في العالم والجاليات في الخارج، أي استنفار الشعب كله في وجه الخطر الداهم لا أن تبقى غزة وحدها.
لا يمتلك الفلسطينيون ترف الخيارات في مواجهة الاستهداف الأميركي الإسرائيلي لقضيتهم، وما يحضر لهم سوى الإرادة الشعبية التي جرى استدعاؤها على الحدود الشرقية للقطاع، ففي هذا خروج من الثنائية التي تجسدت بلا نتائج خلال السنوات الماضية، إما مفاوضات يضع خلالها الإسرائيلي مسدسه على الطاولة، وإما مقاومة مسلحة يضع فيها طائراته في السماء. وفي تلك الثنائية لم يتحقق أي شيء فلا المفاوضات تحرك الرأي العام الدولي، بل يعتبر أن الأمر خلافاً بين نظامين سياسيين عليهما حله.. وفي الثانية ما يجعل العالم ينقسم وهو يرى صواريخنا تنطلق بل جزء منه يجعل الفعل الفلسطيني محل إدانة.
هنا قيمة النموذج التي تجسد وإن كان للانقسام دور في إضعافه، لأن البعض يرى في ذلك خروجاً لحركة حماس من المأزق الذي تمر به وأنها تستثمر هذا الفعل لصالحها وهذا صحيح.. بالتأكيد هنا استثمار سياسي فالسياسة ليست حزمة من حسن النوايا والأحزاب ليست جمعيات خيرية. ولكن وسط هذا الفعل والحشود التي تجاوزت حشود حركة حماس في ذروة دعواتها في انطلاقاتها.. كيف يمكن أن يكون الاستثمار وطنياً فلسطينياً في صالح القضية، تتسلح به أمام عدوان سياسي غاشم، بدأت نذره تطل حتى قبل نقل السفارة الأميركية إلى القدس؟ هذا هو سؤال المصلحة الوطنية العليا بعيداً عن خصومات تظهر حتى في لحظة الفعل الوطني.
إن ذلك يتطلب مسألتين رئيسيتين: الأولى، تقييم التجربة واستخلاص العبر مما حدث لتقليل حجم الخسائر. ويبدو أن هذا قد بدأ لأن مسيرة الجمعة الثامنة كانت تبتعد عن الجدار وبخسائر أقل قياساً بما سبقه. والثانية عدم ظهور حركة حماس كقائد وحيد لهذا التحرك الوطني؛ لأنه في الحقيقة أكبر من فعل الحركة التي جربت سابقاً وحدها استنفار الإرادة الشعبية على الجدار ولم تنجح. ومن المهم مشاركة كل الأطراف تمهيداً لنقل هذه التجربة لكل الأماكن الفلسطينية بشكل جمعي وبشراكة المشروع وحتى لا ننزلق لحلول جزئية لغزة تنتهي بالفصل ونسقط في الكمين الأخطر، بل نحافظ على غزة كجزء من الوطن، مناطق الـ 48 بدأت تتحرك وكذلك الضفة والقدس والذي كان لافتاً أن صلاة الجمعة الأولى من رمضان، وهي الجمعة الأولى بعد نقل السفارة، أنها لم تشهد فعلاً بمستوى الحدث.
الانقسام فعل فعله، ولكن كيف يمكن تدارك الأمر لإعادة تشكيل العمل الوطني بما يضمن القدرة على مواجهة القادم كضرورة وطنية وقد بات واضحاً للعيان أن المشروع الوطني يتعرض لخطر لم يتعرض له على امتداد العقود السبعة في تاريخه؟ علينا أن نعيد التفكير بحضوره حتى نتمكن.
مراجعة التجربة التي وقعت بين أيدينا باتت ضرورية لأن هذا الخيار الأخير يجب ألا يسقط وألا يخضع للتبهيت كخيار كفاحي بسبب حدة الاستقطاب القائمة. فقط تخلله الكثير من الأخطاء يجب تصويبها لا قتل الخيار والعودة للسكون، ولنقرأ ما كتبه البروفيسور يورام يوفال الذي يدرك صوابية الخيار قائلاً: ماذا لو اقترب خمسون ألف امرأة مع أطفالهن من سياجنا دون رجل واحد ودون حجر واحد ودون بندقية وسرن على أقدامهن بهدوء وقلن: إنهن سيعدن إلى المنزل؟ ماذا سنفعل بعد ذلك؟ والأهم: ماذا سنقول لهن ولأنفسنا؟
هذا ما أراده النشطاء والمثقفون الذين دعوا للمسيرة، تنظيم أكبر تجمع واحد ووضع النساء والشيوخ والأطفال أمام الجيش الإسرائيلي، وليس كما حدث، لذا فإن تقييم التجربة بات ضرورياً، وبالشراكة الوطنية وليس عملاً ارتجالياً لاستثمار سريع رغم قسوة الحياة في غزة؛ لأن النضال يحتاج إلى تنظيم وإلى نفس أطول.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية