لم تكن ضربة الجزاء التي نفذها الرئيس محمود عباس داخل مرمى حارس فريق بالستينو التشيلي، داريو ميلو، مجرد ركلة للاحتفال أمام الكاميرا، بل كانت هدفاً له دلالات رمزية عالية وإشارات أبعد من مجرد لحظة الاحتفال. حارس الفريق التشيلي العريق الذي تأسس قبل قرابة قرن من الزمن لم يتصد للكرة بالطبع، لكن اللحظة كان لها وقعها التاريخي، وربما على خلاف كل ركلات الجزاء في المباريات الحقيقية، فهي لم تكن موضع خلاف، بقدر ما عبرت عن تلك الروابط العميقة بين فلسطين والفلسطينيين، بين الأرض وأصحابها حتى وإن كانوا في آخر نقطة على هذا الكوكب.
تاريخ الشتات الفلسطيني في أميركا اللاتينية يستحق المزيد من الكشف والتقديم والتعريف به فلسطينياً، وربما أن هذا يجب أن يكون ضمن المنهاج الفلسطيني فيما تقوم وزارة التربية والتعليم بمحاولاتها الجادة لتطوير المنهاج. التعريف بهؤلاء الفلسطينيين الذين ذهبوا إلى أميركا اللاتينية ليساهموا في بناء الدول هناك، ويبحثوا عن حياة أخرى بدلاً عن الحياة في ظل الحكم العثماني باتوا بعد زمن ليس بطويل جزءاً أصيلاً من مكونات المجتمعات الجديدة،
تصنف يولا الراهب في كتابها الصادر بالإنجليزية "أميركيون لاتينيون جذورهم فلسطينية" في دراستها التقديمية للكتاب إلى ثلاث موجات: الأولى خلال الحكم العثماني (1860-1916) والثانية تحت الانتداب البريطاني الذي بدأ عام 1917 وانتهى من النكبة 1948 والثالثة بعد النكبة. وفي بعض البلدان فإن التجمعات الفلسطينية توسعت وباتت ذات تأثير مهم في مجتمعاتها. مثلاً تصل نسبة الفلسطينيين في هندوراس إلى 3% نجحوا في الاندماج الناجح في الحياة العامة حيث وصل بعضهم إلى رئاسة الجمهورية مثلما فعل كارلوس روبير فلورس الذي عمل رئيساً للدولة الهندوروسية خلال الفترة 1998 و2002. وكذلك الأمر في العديد من البلدان اللاتينية في أميركا الجنوبية مثلاً رئيس السلفادور السابق أنطونيو السقا ومنافسه على الرئاسة سكرتير الحزب الشيوعي شفيق حنضل. وعيد موسى رئيس وزراء بيليز السابق (هندوراس البريطانية سابقاً)، وعمر شحادة النائب الثاني لرئيس جمهورية البيرو، ورئيس وزار البيرو سيمون جودي (عودة). نجح الفلسطينيون في مجالات الحياة المختلفة هناك.
ولم يكن تأسيس نادي بلستينو الذي يتخذ من خارطة فلسطين طريقة لترقيم سترات لاعبيه ولا رفع الدائم لعلم فلسطين إلا أحد هذه الدلالات. لاحظوا كيف عبر رئيس النادي خورخي أواي عن سعادته أمام الرئيس عباس، حين قال: إنهم يرفعون وبفخر "علمنا الحبيب" أسبوعاً وراء أسبوع. من الرياضة إلى الأعمال إلى فن الطبخ إلى الأدب كان الفلسطينيون حاضرون في كل مناحي الحياة. نيكولاس ماسو لاعب كرة المضرب التشيلي الشهير والحاصل على ذهبية أولمبياد أثينا، وإبرييل كافاتي (قنواتي) أبرز رجال الأعمال الهندوراسيين صاحب شركات "إل أندو" التي تعد واحدة من كبريات شركات تصدير القهوة في العالم، وأليكس عطا الله الشيف البرازيلي الشهير. أما في مجال الأدب فاقترح أن نطالع ما أعده الشاعر أحمد يعقوب عن ثمانية شعراء تشيليين من أصل فلسطيني: محفوظ مصيص، وسلفادور جينيني، وأندرس سابيلا، وأولغا لولاس، وفريد نصار، وماتياس رفيدي، وفريد متوازي وتيودور السقا. ووفق تقديم يعقوب فإن هؤلاء لا تقل مكانتهم عن شعراء المهجر العربي الكبار أمثال إيليا أبو ماضي. من الطبع لا بد أننا نشعر بالحزن بأننا لا ندرّس في منهاجنا الفلسطيني الوطني أياً من أعمال هؤلاء ولا نعرف شيئاً عن الحركة الأدبية الفلسطينية في المهجر، فقط ندرس أدب المهجر اللبناني والسوري. خارطة الأدب الفلسطيني في أميركا اللاتينية تشمل كل الأقطار التي عاشوا فيها. للتذكير لا للحصر إدواردو ميتري قنواتي، الشاعر بوليفي البارز وجابرييل زيد الشاعر المكسيكي.
من المؤكد لم يكن الأمر بلا مشاق وعذابات، حيث تذكر الباحثات نيكول صافي غيفارا ولورنزو اجار كوربينوس في فصلهما الأخير حول فلسطيني تشيلي في كتاب فيولا الراهب أن هجرة الفلسطينيين الأوائل إلى تشيلي لم تكن سهلة بل كانت صعبة، وأنه لولا نضالات هذا الجيل لم يتمكن الجيل الثاني ومن تلاه بعد ذلك من تحقيق تلك النجاحات في الحياة العامة. قد يكون مثيراً أن نعرف أن أول مرة رفع فيها الفلسطينيون مطالبهم بحق العودة إلى فلسطين كانت في تشيلي وقبل النكبة باثنتي عشرة سنة أي عام 1925. يشير نديم بوالصة في دراسة له بعنوان "فلسطين في غرب الأنديز" حيث يحلل نضال الفلسطينيين وما أثاروه من نقاش في الصحافة الفلسطينية الصادرة بتشيلي في عشرينيات القرن الماضي ضد قرار إدارة الانتداب البريطاني الذي يحرمهم من العودة إلى فلسطين في ظل مساعي لندن لتوطين اليهود وتفريغ فلسطين من أهلها. وكان أول مقال تعرض لذلك في صحيفة الوطن في كانون الأول 1925 بعنوان "أفيقوا أيها الفلسطينيون". وتم تشكيل لجان وجمعيات للدفاع عن حق العودة. وكان الدكتور أحمد عزم أشار في مقالة حديثة له لهذا الأمر أيضاً.
ربما أن الهدف الرئاسي في مرمي نادي بلستينو يكمن في حقيقة التذكير بهذا الشتات ودمجه ضمن التفاعل الفلسطيني والاستفادة من ممكناته. صحيح أننا لم ننقطع عن التواصل سياسياً، حيث كان المؤسس أبو عمار دائم التذكير والإشادة بفلسطيني تشيلي وربطته علاقات قوية مع رموز المجتمع الفلسطيني هناك، ولكن يجب الآن أكثر من أي وقت مضى ونحن نقول: إن مشروع تصفية القضية لن يمر ونتذكر بألم النكبة في ذكراها السبعين، نعيد ترتيب العلاقة مع الشتات. وربما في قلب كل هذا تفعيل دور منظمة التحرير ودائرة شؤون المغتربين فيها حتى تقوم بدورها الفاعل في صقل الهوية الفلسطينية المشتركة، وحتى يعاد ترتيب البيت. قضايا كثيرة تبدأ بالتعريف بالشتات وتدريس آدابه وفنه وتنتهي بالسياسة وتوظيف الطاقات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية