يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات في النظام السياسي الديمقراطي، جوهر هذا النظام نظراً لاعتماده على عدم تغول أية سلطة على السلطتين الأُخريين، وعدم حصر الصلاحيات والقرارات بيد فرد أو فئة أو حتى سلطة، وهذا يقضي بوضوح مواد الدستور التي تنظم هذا الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، غير أن «مفهوم الفصل» لا يؤخذ بحرفيته في الدساتير الديمقراطية، سواء كان النظام برلمانياً أو رئاسياً مختلطاً، أو مجلسياً (كسويسرا) ذلك أن الممارسة العملية لدى قيام أية سلطة من السلطات الثلاث، تقود إلى تماس وتفاعل مع السلطات الأخرى، وهنا يصبح «مبدأ التوازن» بين السلطات، رديفاً لمبدأ فصل السلطات، إلاّ أن الحد الفاصل بين الفصل والتوازن هو ما يحدده دستور البلاد.
ورغم وجود دستور ديمقراطي، وممارسة ديمقراطية من خلال الفصل بين السلطات الثلاث والتوازن فيما بينها في إطار الصلاحيات، إلاّ أن الممارسة العملية تشير إلى أن احتمالات «الاشتباك والاختلاف حول الصلاحيات» واردة بطبيعة الحال، لذلك، لا بد من جهة دستورية، تقوم على الفصل بين الاختلافات والخلافات، وتقوم بفض النزاع ووقف الخلاف، وبحيث يتم الالتزام بقرارات هذه الجهة، وهنا يأتي دور المحاكم الدستورية، أو القضاء الأعلى، أو أي مسمى تكون مهمته، تفسير القوانين والتشريعات وفض النزاعات الدستورية بين مختلف السلطات الأساسية في النظام السياسي الديمقراطي، وتعتبر هذه الجهة هي أعلى وأسمى مؤسسة في الدولة الديمقراطية وتتمتع بصلاحيات واسعة باعتبار أن قولها هو القول الفصل الذي يجب على كافة السلطات الامتثال له، إلاّ أن المحاكم الدستورية أو القضاء الأعلى يتخذ ويلتزم تماماً بالقانون الأعلى للدولة أي الدستور، لكن قراراتها هي في الأصل تفسير لمواد هذا الدستور والتزام مطلق بها.


في إسرائيل، وبعد سبعة عقود من قيامها، ليس هناك من دستور للدولة العبرية، وما يسمى «بوثيقة الاستقلال» عام 1948، نصت على ضرورة سن دستور للدولة، غير أن خلافات ذات طبيعة دينية ـ ليبرالية، وسائل تتعلق بملكية الفلسطينيين للأرض، وأسباباً عديدة أخرى حالت دون سن مثل هذا الدستور، لذلك اعتمدت الدولة العبرية ما بات ليس بقانون الأساس لكل مستوى، قانون أساس الجيش، قانون أساس القدس ، قانون أساس مراقب الدولة، قانون أساس العمل، قانون أساس الحكومة.. وهكذا، وهذا ما فتح المجال واسعاً أمام المجلس التشريعي، « الكنيست » إلى سن قوانين أساس بشكل دائم ومستمر، لذلك تطغى قوانين ذات أبعاد يمينية فاشية، كلما كانت أحزاب عنصرية ويمينية وفاشية تسيطر على الكنيست، كما في أيامنا هذه، غير أن محكمة العدل العليا في إسرائيل، وهي بمثابة محكمة دستورية، وُفقت في بعض الأحيان، في مواجهة مع التغول التشريعي من قبل الكنيست، وأفتت بعدم دستورية العديد من التشريعات التي يناقشها أو يسنها، الأمر الذي أدى إلى نزاع حاد بين الكنيست ومحكمة العدل العليا، لذلك، لجأت الأحزاب الأكثر تطرفاً ويمينية في الكنيست والحكومة، إلى سن قانون أساس، يلغي العديد من صلاحيات محكمة العدل العليا، ويصادر أهم مهامها وأسباب وجودها، علماً أن هذه المواجهات بين الطرفين، تعود إلى أوضاع داخلية إسرائيلية ولها علاقة بهوية الدولة العبرية وطغيان الفكر اليميني على المجتمع الإسرائيلي، كما أن محكمة العدل العليا، كثيراً ما أجازت قوانين شرّعها الكنيست في المواجهة مع الشعب الفلسطيني، سواء قوانين عنصرية ضد الفلسطينيين في الداخل، أو ضد النشطاء والمقاومين الفلسطينيين بشكل عام، لذلك فإن أسباب هذه المواجهة بين الكنيست ومحكمة العدل العليا، تعود إلى أسباب داخلية إسرائيلية بالدرجة الأولى. 


وقبل أيام قليلة، صادقت اللجنة الوزارية للتشريعات في إسرائيل على مشروع قانون تخطي المحكمة الإسرائيلية العليا، والسماح بإعادة سن القوانين التي رفضتها المحكمة العليا، على أن يتم تحويل مشروع القانون للهيئة العامة للكنيست للتصويت عليه. اليوم الأربعاء ومع خلاف وتحفظات حول نسبة العدد المطلوب من النواب في الكنيست لإقراره، بين 61 صوتاً، وأطراف أخرى ترى أن مثل هذا القانون يفترض موافقة أعضاء أكثر، ومع أن رئيس الحكومة أبدى تحفظاته على هذا المشروع، إلاّ أنه لم يستخدم صلاحياته باستخدام حق النقض كي لا يتم إقراره من قبل اللجنة الوزارية، وهو سلوك طبيعي من قبل نتنياهو الذي لا يريد زعزعة حكومته من ناحية، وتزايد انزياحه لصالح الأحزاب الأكثر تطرفاً في حكومته.
ومهما كان الأمر، فإن انفلات الأحزاب اليمينية العنصرية لدى حكومة نتنياهو وبرلمان الدولة العبرية، مؤشر بالغ الخطورة، أولاً وقبل كل شيء، على البنية الاجتماعية والسياسية في إسرائيل ذاتها، وتغول هذه القوى على الفئات العلمانية والديمقراطية داخل الكيان الإسرائيلي بالدرجة الأولى.


Hanihabib272@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد