يستمر الشعب الفلسطيني في إبداعاته بالقدرة على تقديم الوسائل والأساليب النضالية المختلفة، بما يخدم شكل وطبيعة المرحلة، وسعيه لإنتاج الخيارات البديلة مع قلة الخيارات المتاحة، في صراع تخذله فيه التوازنات السياسية، إضافة للمعادلات الإقليمية والدولية.

ويعي الشعب الفلسطيني من خلال تجربته في الكفاح من أجل الخلاص من الاحتلال الجاثم على صدره منذ عقود، شكل الأدوات والطرق النضالية المناسبة، بما تستلزم الظروف المصاحبة لذلك، وبلوغ الأهداف المرحلية، وبما يصب في نهاية الأمر في تحقيق الأهداف الإستراتيجية، والتي تتلخص في إنجاز مشروع الاستقلال ونيل حريته وحقوقه الوطنية.

كما أن أبناء الشعب الفلسطيني باتوا اليوم يدركون تمام الإدراك بأهمية الحفاظ على الطاقات النضالية، وعدم إهدارها، والتفريط بها، في حربه التحريرية طويلة الأمد، إلى جانب فتح كافة الأبواب والنوافذ من أجل الانفتاح على الأحرار في مختلف أنحاء العالم، لما لذلك من انعكاسات إيجابية، ونتائج ستعود حتماً بالنفع على قضيته العادلة، التي تحمل رمزية كونها قضية كل إنسان حر وشريف، يناصر العدل ضد الطغيان، والحق في مواجهة الباطل.

وتعطي عملية الانفتاح على أحرار العالم للقضية الفلسطينية بعداً أممياً، باعتبارها قضية تثبيت للقيم والمبادئ الإنسانية، وصراع يسعى المحتل من خلال رواياته التي تتسم بالتلفيق والكذب والتزييف إلى تبديل المفاهيم والحقائق حولها، فضلاً عن الشرائع والنواميس الكونية، بالشكل الذي يشرعن سرقته للأرض والهوية والثقافة، إضافة إلى التاريخ.

إضافة إلى ذلك، فإن تفعيل حركة التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية يقطع الطريق على استمرار رواج رواية التضليل، والإيهام بدور الضحية، التي تمارسها وسائل إعلام غربية داعمة لدولة الاحتلال، ويحرج الدولة العبرية أمام الرأي العام العالمي، سيما في المجتمعات التي شكلت حاضنة له عبر "تعاميها" تجاه الانتهاكات التي يمارسها بحق الفلسطينيين، وضرورة اتخاذ ردود أفعال مناسبة حيالها.

إلى جانب ذلك، يمهد توثيق العلاقة مع المتضامنين الدوليين، ومد الجسور مع المنظمات الدولية المتخصصة، خاصةً المعنية منها بالشؤون الإنسانية والحقوقية، إلى تشكيل جبهة إنسانية تقف في وجه جرائم الاحتلال، وتعريته أمام العالم، ومن ثم ملاحقته قانونياً على ما تقترفه يداه بحق الأبرياء من الفلسطينيين والعرب، وقد باتت الملاحقات القانونية لقادة الاحتلال في العواصم العالمية تقض مضجعه خلال السنوات الماضية، لا سيما المساعي الرامية لمقاضاتهم بعد ارتكاب المجازر بحق أبناء الشعب الفلسطيني في غزة خلال الحروب المتعاقبة على القطاع منذ العام 2008.

وتلعب اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة الدور الريادي في استقطاب المتضامنين الإنسانيين مع فلسطين، بعد بذلها جهوداً كبيرة في هذا الإطار، وهي المبادرة الفلسطينية التي نشأت من أجل العمل على التصدي لجريمة الحصار، غير القانوني وغير الإنساني، المفروض على القطاع براً وبحراً وجواً، ومواجهة تداعياته، عبر تنفيذ الفعاليات الهادفة لحشد المجتمع الدولي وتحفيزه للتحرك من أجل إنهاء الحصار الجائر الذي يستهدف الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء والعجزة، وذلك من خلال الطرق السلمية.

وضمن أنشطتها في بلورة تحالفات للقوى المدنية التضامنية في دول الغرب أطلقت اللجنة "تحالف أسطول الحرية" ليكون من مهامه تحدي وكسر الحصار البحري الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي قام بناءً على ذلك بإطلاق العديد من القوافل البحرية التضامنية لكسر الحصار عن غزة، عبر سفن اتجهت من موانئ أوروبية مختلفة، تحمل على متنها مئات المتضامنين من كافة قارات العالم، تعبيراً عن رفضهم للحصار الذي يعتبر وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء.

وترسخ في الذاكرة صور شهداء وجرحى "أسطول الحرية1" الذي أطلقه التحالف في مايو 2010، الذين تعد أرواحهم التي بذلوها رخيصة في سبيل فلسطين وغزة الشاهد الأكبر على جريمة الحصار، بعد أن تعرضت قوات البحرية الإسرائيلية لـ "مرمرة"، إحدى سفن الأسطول، التي كانت تقل المتضامنين السلميين إلى شواطئ غزة، ولم يمنع حينها أي وازع أخلاقي جنود الاحتلال من الاعتداء على ركاب السفينة فقتلت وجرحت العشرات منهم.

ولأن صاحب الحق والكرامة يستمد قوته من يقينه بالله – سبحانه وتعالى- وبنصرته للمظلوم، ولو بعد حين، ويتحلى بالتالي بقوة الحق والإرادة، التي تشكل الدافع للنهوض والاستمرار في المشروع الإنساني، الهادف للذود عن كرامة الإنسان، كان الإعلان عن "أسطول الحرية2"، وإطلاقه بعد ما يقرب العام من جريمة الاعتداء على "مرمرة"، حاملاً على متنه عدداً من المتضامنين الذين لا يكلون ولا يملون، ولا يخشون في الحق نتائج أي عمل لنصرة الحق والإنسانية، إلا أن جيش الاحتلال قام بعملية قرصنة ضد السفن المشاركة ومنعها من الوصول إلى غزة.

ويزداد ترسخ القناعات لدى المتضامنين الدوليين، مع استمرار الحصار على غزة، الذي خلق حالة التضامن تلك، واستمرار قوات الاحتلال في خنق آهات وأنين المحاصرين في غزة، ومنعها من الوصول إلى العالم، عن طريق منعهم لمزيد من السفن والمتضامنين من الوصول إلى غزة، حيث كان مصير "أسطول الحرية3" مشابها لسابقه، بعدما قامت قوات الاحتلال البحرية بالقرصنة ضد الأسطول الذي انطلق في العام 2015 في ذكرى جريمة "مرمرة" السنوية.

واستمر الاحتلال بممارسة صلفه واستهانته بكافة التشريعات والقوانين الدولية، من خلال استمرار تشديده الحصار على غزة، وقرصنته لقافلة السفن النسائية التي حملت راية "أسطول الحرية4" عام 2016، حيث هدفت السفن للتعبير عن تضامنها مع المرأة الفلسطينية المحاصرة في غزة، والتي أثقل الحصار حِملها من العذابات وتبعات الحصار الإنسانية ضد أسرتها وأطفالها.

وتأتي سفن التضامن الدولي الهادفة لكسر الحصار الجائر على قطاع غزة، والمستمر منذ ما يقرب 12 عام، كجزء من حالة التضامن التي تشهد رقعتها اتساعاً، بعدما أدت دوراً محورياً في الاطلاع عن كثب على معاناة الغزيين الإنسانية بسبب الحصار، ونقل الصورة بواقعية، وحيادية عالية، في المجتمعات الغربية على وجه التحديد، حيث لعب المتضامنون دور سفراء للإنسانية في قضية الحصار الجائر على غزة.

ومع تمكن العديد من السفن التضامنية الإغاثية في الوصول إلى شواطئ غزة منذ العام 2008، وحققت حينها غاياتها في كسر الحصار، والتعريف بمعاناة سكان القطاع، فإن السفن التي اعترضها جيش الاحتلال وقواته البحرية، حققت غايات لا تقل أهمية عن سابقاتها، تمثلت في تسليط الضوء على معاناة الغزيين الإنسانية المتفاقمة مع استمرار الحصار، وكسر حالة الجمود التي فرضتها تداعيات المرحلة السياسية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، مع ما تعيشه عدد من الدول الشقيقة من حروب وعدم استقرار سياسي، فضلاً عن نجاحاتها- حتى وإن نظر لها البعض كنجاحات جزئية- في إعادة ترتيب أولويات المنطقة، عبر إنهاء حالة "التناسي" لمعاناة الفلسطينيين، والتأكيد على جوهر الصراع في المنطقة المتمثل بوجود الاحتلال الإسرائيلي.

نعم، وصلت العديد من السفن التضامنية الإغاثية إلى شواطئ غزة، كالـ "الحرية و"غزة الحرة" وسفينة "الإغاثة الإنسانية في مصر" و"الأمل" و"الكرامة" و"الكرامة القطرية"، بينما لم تتمكن سفن "المروّة الليبية" و"العيد" و"الكرامة2" و"الأخوّة اللبنانية" و"روح الإنسانية" و"أسطول الحرية1" و"الأمل الليبية" و"أسطول الحرية2" و"روح راشيل كوري"، وسفينتا "التحرير والحرية" و"استيل" و"ماريان" و"ليدي ليلي"، و"الأمل والزيتونة"، وكانت جميعها تذكّر بجريمة الحصار على قطاع غزة، وبمعاناة أهله، وفي الوقت نفسه كانت أقرب ما يكون إلى العلاج عن طريق "الوخز بالإبر" لضمير المجتمع الدولي الذي أصاب أحاسيسه داء "الخدر"، والتواطؤ إزاء حرب التجويع التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.

ومع وصول الأوضاع في غزة اليوم إلى مستوى التحذير من "الكارثة" الإنسانية و"الانفجار" نتيجة الحصار، تتهيأ سفينة "العودة" للانطلاق إلى شواطئ القطاع عبر موانئ أوروبية لتكمل مهمة شقيقاتها من السفن التضامنية، في كسر الحصار، متخذةً بما للاسم من رمزية رسالة توجهها للعالم للتذكير بنكبة الفلسطينيين، وسكوت القوى المؤثرة فيه عن مأساة أنتجت شعباً من اللاجئين والنازحين، وخذلانها في التصدي لأكبر عملية سرقة في التاريخ المعاصر، لوطن يزخر بالتاريخ والحضارة والمقدسات، والرسالات السماوية.

ويطرق أسطول الحرية الجديد الذي تعتبر سفينة "العودة" التضامنية إحدى سفنه، هذه المرة أبواب ذاكرة المجتمع الدولي، ولتؤكد لهم من خلال الحراك الجماهيري المستمر في ذكرى النكبة بأن الشعب الفلسطيني متمسك بثوابته الوطنية، وبأن أجياله المتعاقبة لم تنس الأرض، ولم تنسلخ عن هويتها، بحسب ما خطط لها الصهاينة المحتلين، وبأن علاج "الوخز بالإبر" سيستمر حتى إنعاش ذاكرة من ينسى أو يتناسى حقوق الشعب الفلسطيني، الذي يمتلك بدوره ذاكرة من حديد تختزل تفاصيل الوطن، وعزم لا يلين حتى تحقيق الثوابت في استرداد الأرض.. والعودة.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد