شكلت مسيرة العودة نقطة مهمة في الفعل الميداني في قطاع غزة   واستكمالاً لنهج مقاومة شعبية متجذر في تقاليد النضال الفلسطيني منذ المسيرات الغاضبة التي خرجت قبل أكثر من مائة عام احتجاجاً على وعد بلفور المشؤوم مروراً بثورة البراق وإضراب عام 1936 الشهير وصولاً إلى المسيرات الجماهيرية الحاشدة التي حمل خلالها الشاعر الكير معين بسيسو على الاكتاف وهو يهتف في الجماهير لاسقاط مشاريع التوطين حتى الانتفاضة الأولى وما قدمته من نماذج كفاحية متنوعة ستظل دروسها صالحة للتعلم لأجيال قادمة وحتى المقاومة الشعبية لمناهضة جدار الفصل العنصري والتظاهرات الأسبوعية في القرى قرب الجدار خاصة نلعين وبلعين والنبي صالح. حتى ان قطاع غزة شهد بعد سنتين من الانقسام لجنة لمناهضة اجراءات قوات الاحتلال في المنطقة المجاورة لسلك الحدودي شرق قطاع غزة من هيئة العمل الوطني ومارست نشاطها بقوة وفعالية، وكان المتضامون الأجانب لسنوات يأتون للمشاركة في فعالياتها، وشكلت انعطافة هامة في سبل الاشتباك مع قوات الاحتلال سلمياً. سلسلة طويلة من الكفاح الوطني كان البحث فيها عن أفضل وسيلة للتعبير عن رفض سياسات الاحتلال وقراراته يشكل هاجس الجمهور الأول. وربما بالعودة إلى ابداعات الانتفاضة الاولى وسبل الاحتجاج السلمي التي وصلت رفض البطاقة الممغنطة والعمل في الداخل وحرق الهويات فإن مسيرة العودة الحالية بحاجة لابداع طرق كثيرة من أجل تنويع أشكال الاحتجاج بعيداً عن البلاغة وسباق المفردات. 
مجموعة من الملاحظات واجبة في هذا السياق:


أولاً: يجب التأكد من غايات المسيرة ووضعها ضمن النسق الخاص بها مع ادماجها ضمن الخطاب العام. كيف ذلك؟ بداية يجب أن نكون متأكدين من الاجابة على السؤال البديهي: عن شو المسيرة؟ أو بكلمة أخرى ماذا نريد منها. إذا كانت الإجابة كبيرة وتصطف ضمن نسق البلاغة فإن هذا سيكون له عواقبه بعد ذلك حين تنتهي المسيرة فجأة أو يتم الإعلان عن نهايتها أو ان تتوقف عن أخذ الزخم الذي أخذته خلال الأسابيع الماضية، ولا تكون مثل "شتوة" أمس التي جاءت سريعة ومنعشة وإن بعد طول انتظار، لكنها ليست فصل الشتاء. لنلاحظ أنه مع منتصف مايو القادم حيث المسيرة الكبرى المزمعة في الذكرى السبعين للنكبة سيكون رمضان على الأبواب وبالتالي فالجمعة التالية لجمعة النكبة سيكون الناس صياماً. التفكير الحقيقي والجدي في غايات المسيرة يجعلنا نقف على ضرورة صوغ خطابها بشكل دقيق فلا ننجر وراء الكلمات الكبيرة. لأن كل شيء له ثمنه، والتوقعات الكبرى على قدر ما تسعدنا تضعنا أما تحديات أكبر منها. 


ثانياً: المقاومة الشعبية السلمية لا تأتي نتائجها في ليلة وضحاها، هي ليست معركة عسكرية يتم فيها تدمير قدرات الخصم والإطاحة بترسانته وإبادة جنوده واستعادة المواقع منه، هي شيء مختلف كثيراً. لذا فإن القلق يجب أن يصيبنا حين نسمع العبارات الكبيرة حول اهداف المسيرة وغاياتها لأن مثل هذا لا يعكس فهماً لطبيعة ما يجري. المؤكد أن التطلعات يجب أن تكون كبيرة لكن الحديث عن الأهداف المرجوة يجب أن يكون متناسقاً مع الأداة المستخدمة. وحين يتعلق بما يجري فإن النضال اليومي على طول حدود قطاع غزة يشكل رسالة قوية حول تمسك الشعب الفلسطيني بحقه في العودة إلى أراضيه التي هُجّر منها عنوة، وأن الآباء يموتون والأبناء لا ينسون، وأن أي صفقة لا تضمن عودة هذا الشعب إلى مهد الحلم وموطن نوارس القلوب ستفشل وان الصفقة الوحيدة التي يقبل بها هي التي تعيده إلى بلاده. هذا قد لا يتحقق الآن لكن النضال السلمي طويل الأمد كفيل بفكفكة كل ما يبدو صلباً وإذابة الجبروت الذي تمارسه قوات الاحتلال. لم تبق قوة احتلال في التاريخ إلا وانهارت، والشيء الثابت في التاريخ أن التغير في موازين القوة هو محرك العلاقات البينية، وأن الموقف الثابت هو موقف الحق وليس الباطل. 


ثالثاً: يجب تنويع أشكال المقاومة الشعبية في قطاع غزة وتنويعها بما يكفل انشغال المجتمع كافة في فعلها المقاوم سلمياً. من ذلك مثلاً نلاحظ غياب أداة مهمة وحاسمة تتمثل في مقاطعة البضائع الإسرائيلية التي تنتشر بشكل كبير في القطاع. المقاطعة التي تتفاعل في العالم بشكل كبير عبر حركة البي دي أس، وتأخذ شكلاً مختلفاً في الضفة الغربية من خلال مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وتطهير الأسواق والمحال منها غائبة في غزة. يمكن الاستفادة من المقاطعة بعد تفعيلها في تشكيل ضغط آخر على دولة الاحتلال وفي تصليب وتكامل أدوات الفعل اليومي. ما ارمي إليه هنا وجوب تعدد الفعاليات التي تعكس أولاً الهدف المرجو من وراء مسيرات العودة وهو هدف محدد، لكن يمكن التعبير عنه بطرق شتى، وثانياً تكشف عن إصرار على تحقيق الأهداف الكبرى، وفي هذه الحالة تركز على إنهاء الاحتلال والعودة واستعادة الاستقلال. لا شيء مستحيل، المستحيل هو الذي لا نعرفه، وحين نعرف يقيناً اننا عائدون فإن كل الصعوبات تزول وتختفي كل العقبات. 


رابعاً: الغائب الأساس في كل ذلك الوحدة الوطنية، ومن المحزن أن الدرس الأهم الذي تجلى على أرض الميدان لم يفهمه البعض حتى الآن. الدرس الثمين الذي ساهمت الأخطاء في اندثار القيم التي يدعو لها. من الحزن أن "السكينة" تسرقنا، كما يقول المثل الشعبي، ولا نلتفت إلى الحاجات الأساسية. السؤال الأبرز: هل لكل ما يجري أن يستمر في حالة ظل الانقسام هو السمة الأساسية للعلاقات الداخلية. أظن أن أبسط إجابة ستستخف بكل الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال. وكما يقول مونتسيكو فإن قوة الأخلاق تجر ورائها كل شيء. ولكن يجب أن توجد الأخلاق والمثل التي تجعلنا نؤمن بما نسعى إليه، حتى لا يكون ما يجري مجرد "تنفيسة" أو ردة فعل لحظية، وليس رؤية شاملة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد