مرة أُخرى يضع الانقسام الفلسطيني بصماته المحبطة والأليمة على المبادرة الشعبية التي يتفق الجميع على سلميتها، وأهمية تداعياتها، وضرورة استثمارها، يبدو أن واقع الانقسام العميق في الحركة الوطنية الفلسطينية، يمتلك من آليات الكبح، أكثر مما يملك الحراك الشعبي الفلسطيني من إمكانيات وآليات تحقيق الإنجاز. لا نجازف إن قلنا إن هذا الحراك الشعبي السلمي على حدود قطاع غزة ، هو الأهم، والأكثر تأثيراً، والأكثر أهمية لتحقيق إنجازات منذ الانتفاضة الشعبية الكبرى التي اندلعت عام 1987 ولكن في ظروف ومرحلة مختلفة.
كان من الأولى أن يشكل هذا الفعل الشعبي السلمي المبادر، عاملاً مهماً لاستنهاض وتفعيل، وتوسيع نطاق المقاومة الشعبية حتى تشمل كل مكان يقف فيه فلسطيني. لكن اختلاف الحسابات، واختلاف الظروف، يحولان دون ذلك، أو أنهما يضعفان ويحجمان هذا الفعل. إنها فرصة حقيقية، لتصعيد الهجوم الفلسطيني السلمي المبادر على المخططات الأميركية الإسرائيلية التي تسعى لتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، لكن كثرة البيانات والتصريحات الداعمة التي تصدر عن مسؤولين فلسطينيين لا تخفي حقيقة أن ثمة إهداراً لهذه الفرصة، وأن ثمة تعاملاً شكلانياً معها.
كان من الممكن لو أن ظروف الفلسطينيين مختلفة، أن يؤدي هذا الحراك الشعبي السلمي، لتدشين مرحلة جديدة من الصراع الذي يقف فيه الفلسطينيون في وضع المبادر لإفشال " صفقة القرن "، ومجابهة المخططات الإسرائيلية، وتعظيم حركة المناصرة للقضية الفلسطينية وفضح العنصرية الإسرائيلية، وأساليبها الإجرامية، ودفعها نحو المزيد من العزلة الدولية.
وكان يمكن لهذا الحراك، أيضاً، أن يلجم الأصوات الناشزة التي تصدر عن بعض المسؤولين العرب، وتستهدف الاستعجال نحو التطبيع، وصياغة تحالفات إقليمية ذات أبعاد دولية، تدفع القضية الفلسطينية إلى الخلف.
يستطيع الفلسطينيون أن يعيدوا صياغة الأولويات، وأن يفرضوا أولوية الاهتمام بالقضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال المجتمع الدولي والإقليمي والعربي.
نعم يبرز التوتر الدولي والإقليمي على الجبهة السورية، وينذر بتصعيد الحرب الباردة، في هذا الإقليم، وربما يؤدي إلى مواجهات حربية بين روسيا وحلفائها، والولايات المتحدة وحلفائها الذين عادت لتجمعهم من جديد في صراع مصالح، لكن كل ذلك ليس إلى جزئية هامة بالطبع من مشهد الصراع الذي تشكل القضية الفلسطينية أساسه وجوهره.
يمكن ويمكن الكثير لكن الحال الفلسطيني لا يشي بإمكانية الاستثمار الجيد، لكل هذه الظروف والعوامل، ومرة أخرى بسبب طغيان الحسابات الفصائلية على الوطنية، لا يُخفي هذا الاستخلاص، كل الخطابات والحذلقات، وعمليات التستر، فالفعل في غزة، تتقلص مساحته وتداعياته، طالما بقي الانقسام، وبقيت عمليات الاستثمار الفصائلي، لا بل أن هذا الفعل المكلف، قد يواجه عديد العقبات أمام إمكانية تعظيمه وإدامته. وسط كل الأهداف والشعارات التي تطرح لهذا الفعل الشعبي السلمي، ثمة هدفان يمكن تحقيقهما؛ الأول هو كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، والثاني وضع الأطراف أمام مسؤولياتها، إزاء إنجاح وتحقيق المصالحة الفلسطينية المتعثرة عند عتبة الحسابات والمخاوف الفصائلية المتبادلة.
ثمة ترابط وتداخل شديد بين الهدفين، لكن هدف تحقيق المصالحة هو الذي يقرر إلى حد بعيد هدف كسر الحصار، والخشية إن لم يتجاوز الفلسطينيون عقبة المصالحة، أن نقف لندعي تحقيق الانتصارات، وإحصاء الشهداء والجرحى، والعودة كل لإلقاء التهم والمسؤولية على الطرف الآخر.
نعلم أن الرئيس محمود عباس يحاول أن يستخدم وسائل قاسية، لتحقيق هدف نبيل وهو إرغام حماس على الانصياع لشروط تحقيق المصالحة. كما نعلم، أيضاً، أن حماس تحاول الاستعانة بالفعل الشعبي السلمي على حدود غزة والدم النازف، من أجل إرغام حركة فتح على القبول برؤيتها للمصالحة لكن النتيجة حتى الآن صفر. لا حماس مستعدة لتمكين الحكومة وفق رؤية الرئيس عباس، ولا الرئيس مستعد لقبول رؤية حركة حماس. ولكننا نعلم أن حماس قطعت على نفسها موافقة لتمكين الحكومة وفق اتفاق الطرفين في القاهرة في تشرين الأول الماضي، ولكنها لم تفعل، وإن عليها أن تسلم البيت بكامله لا أن تحتفظ لنفسها بغرفتين منه، وتدعي أنها سلمت البيت. الثمن نتيجة هذا التناقض يدفعه الناس في قطاع غزة، وإن كان التبرير هو الضغط على حركة حماس.
لا نتصور أن يتخذ الرئيس قراراً بقطع رواتب موظفي غزة، المستنكفين أو القائمين على رأس أعمالهم أو حتى المتقاعدين من أجل الضغط على حماس التي ستتأثر بالتأكيد لكنها أقدر من الناس على الصمود والمواصلة.
فها نحن نقترب من منتصف الشهر، بينما يبرر البعض التأخير بأسباب فنية غير مفهومة. قد تكون نتائج هذه الإجراءات الآن قاسية على الناس، لكنها في المدى الأبعد ستكون قاسية على القضية، وعلى النظام السياسي، وعلى الفصائل.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد