طارق عزالدين.. اسمٌ ورد في الأخبار ومر على البعض مرور الكرام بدون التفطّن بأن خلف هذا الاسم إنساناً بمفهومه الإنساني والأخلاقي، وقد يكون خبر منعه من السفر للعلاج توارى تحت أنقاض ركام أخبار الأحداث المتدافعة بدون الانتباه إلى القصة الإنسانية الكامنة وراء الخبر، وربما قصة مرضه وإرجاعه من معبر رفح أكثر من مرة قد تركت أثراً حزيناً وأسىً بليغاً في نفوس الكثير منّا بدون إدراك حكايته منذ البداية، وهي حكاية شعب طارق عزالدين أحد تجلياتها التي تجمع بين البطولة والمأساة، بطولة شعب صامد مقاوم ومأساة وطن أسير حزين.

طارق عزالدين.. المقاوم العنيد.. الثائر المُطارد.. الأسير المُحرر.. المُبعد إلى غزة .. المتبني لقضية الأسرى.. المُصاب بمرض لوكيميا الدم.. الممنوع من السفر... حكايته هي حكاية شعبه وقصته هي قصة وطنه، حكاية شعب قاوم الاحتلال وثار ضد الظلم وتمرد على الطغيان وانتفض رافضاً العبودية، كأي شعبٍ عزيزٍ حُر يأبى الخنوع ويأنف الخضوع ويصرُ على المجد والشموخ، فيدفع ضريبة العزة والكرامة وهي زهيدة إذا ما قورنت بضريبة الذلة والمهانة عندما يركن الشعب للهوان والإذعان.

ضريبة العزة والكرامة دفعها الشعب الفلسطيني ولا يزال نزيفاً متواصلاً من فلذات أكباده، فمنهم من قُتل فاتخذهم اللهُ شهداء، ومنهم من سُجن فهم أحرار خلف القضبان، ومنهم من نُفىَ وأبعد واُخرِجوا من وطنهم كما أُخرج قدوتهم ورسولهم عليه الصلاة والسلام من وطنه، ومنهم من هُجِر فانضم إلى جموع اللاجئين أو هُدمَ بيته فأمسى مع المشردين داخل وطنهم... وغير ذلك من صنوف القمع وألوان التنكيل؛ لتروى بالدم والعرق والدموع حكاية شعب هي مجموع حكايات أبنائه التي تجمع في مضامينها الدرامية معاني البطولة والمأساة، وطارق عزالدين اختزال لهذه الحكاية تماماً ككل أبطال ورموز الشعب العظيم.

368.jpg
 

طارق عزالدين.. حكايته هي حكاية شعب وقع ضحية لكل قوى الشر في العالم التي أخرجت من بينها خُلاصة الشر وحصيلة القبح ومنُتهى الرذيلة فألقتها في وجهنا فإذا هي دولةٌ تسعى أُمدت بالأموال والبنين والقدرة على النفير، وكانت النكبة ثم النكسة التي وُلد طارق عزالدين بعدها بسبع سنين، ف فتح عينيه على رؤية جنود الاحتلال ومستوطنيه يعيثون في بلدته (عرابة) قضاء جنين فساداً كما في كل فلسطين، فلم يكن من السهل عليه أن يرى ذلك ويسكت وهو الذي رضع مع حليب أمه- ككل أمهات فلسطين- لبن العزة والكرامة وتشّرب معه رحيق الأنفة والإباء، فبلغ مبلغ الرجال مُبكراً وبالكاد شق عن الطوق عندما اندلعت الانتفاضة الأولى.

قاوم طارق عزالدين الاحتلال مشاركاً في فعاليات الانتفاضة الأولى، وخاض تجربته الاعتقالية الأولى ولم يتجاوز عمره الستة عشر ربيعاً ليمكث في السجن بضعة شهور، ليخرج من السجن أشد عوداً وأشحذ عزيمة وأقوى إرادة على مواصلة النضال والسير على درب الثوّار؛ فاعتُقل بعدها ثلاث مرات قبل الانتفاضة الثانية بلغ مجموعها ما يقرب من أربع سنوات، ولكن أهم فصول الحكاية يبدأ مع بداية انتفاضة الأقصى عندما التحق بسرايا القدس – الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي- وشارك في التخطيط والإعداد لعمليات فدائية آذت العدو في جنوده ومستوطنيه أصبح مطارداً بعدها دون أن يمنعه ذلك من مواصلة دربه الجهادي، فشارك في معركة جنين بشكل فاعل ولكنه غير مباشر، مما أدى إلى اعتقاله بعد المعركة بشهرين وهُدمَ بيته وحُكم عليه بالمؤبد وخمس وعشرين سنة وعشرة شهور.

وللشهور العشرة في الحكم قصة فقد زادها قاضى الاحتلال العسكري على الحكم عندما ضحك طارق بعد النطق بالحكم فاستُفز القاضي وزاد عشرة شهور وهي كانت وقف تنفيذ من حكم سابق على طارق وأوصى بعدم خروجه بأي صفقة تبادل، فما كان من طارق إلاّ أن قال «إن الحكم إلا لله وليس لك سأخرج من السجن والأيام بيننا» وقد نفذ حكم الله تعالى، وقد أحسن به ربه إذا أخرجه من السجن مع زملائه الأسرى في صفقة وفاء الأحرار المعروفة بصفقة شاليط بعد أن قضى في سجون الاحتلال ثلاثة عشر عاماً، ولكن نصيبه كان الإبعاد إلى غزة ولم يعد إلى بيته وأهله في عرابة وقال في ذلك إنه لا يعتبر نفسه مُبعداً لأنه متواجد بين أهله في قطاع غزة، وإنه لا يوجد فرق بين جنين القسام وبين غزة هاشم فهي كلها فلسطين وكلها أرض مقدسة طاهرة.

عاش طارق عزالدين وأسرته المكوّنة من زوجة وولدين وبنتين بين أهله في قطاع غزة وعاش مأساتهم وعانى ما عانوا من ويلات الحروب والحصار والانقسام والعقوبات، ونذر حياته لخدمة قضية الأسرى من خلال عمله كمدير لإذاعة الأسرى منذ خروجه من السجن فكان خير من حمل قضيتهم وأفضل من يُعبّر عن همومهم حتى غلبهُ همهُ عندما أُصيب بمرض لوكيميا الدم منذ أكثر من شهرين، ورقد في المستشفى ينتظر كغيره من طوابير المرضى الذين اصطدموا بصخرة بوابة معبر رفح المُغلقة طوال أيام السنة تقريباً، ومنهم من قضى نحبه شاكياً إلى الله تعالى ظلم العدو والأخ والصديق، ومنهم من ينتظر أيهما أسبق الموت أم فتح المعبر، ومنهم من مُنعَ من السفر مثل طارق عزالدين، وهو منعٌ يساوي تماماً انتظار موته في غزة لتكتمل الحكاية.. حكاية شعب قرر أن يتحدى الموت ويصر على تمسكه بالحياة، ولكنها الحياة التي تسر الصديق، وإن لم تكن كذلك فليكن الموت الذي يغيظ العدا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد