كلما حاولت إسرائيل أن تستغل أزمة قطاع غزة الإنسانية أو تعرقل ملف المصالحة أو تأزم العلاقات بين حماس ومصر ، لتأليب الرأي العام الفلسطيني و الدولي ضد حماس ، تتجاهل حماس تلك المحاولات الإسرائيلية، و تجد دوما المخرج الغير متوقع لتلك الأزمات بكل مرونة و خفه، عبر تصدير تلك الأزمات السياسية و الإنسانية التي يعاني منها القطاع لإسرائيل بصفتها دولة احتلال ، و ذلك من خلال استخدام أساليب وتكتيكات سياسية غير مباشرة .
و يدل ذلك على أن لدى حماس قيادة داهية تخطط لها بكل ذكاء ، و تُدير أزماتها بشكل مثير للانتباه ، الأمر الذي سبب إحراج كبير لقيادة الجيش الإسرائيلي التي أصبحت تشعر أنها بمنتصف الطريق الذي من الصعب التراجع عنه ، و أنها مثل الراقصة التي ترقص على السلالم ، فيما يخص التعامل مع قطاع غزة.
فإسرائيل لا تستطيع أن تُقرر حرب جديدة على القطاع للقضاء على حكم حماس بغزة حسب رغبة وزير دفاعها ليبرمان ، خوفا من إحداث فراغ أمني وسياسي بالقطاع ، و خوفا من إتاحة الفرصة للسلفيين و الداعشيين للسيطرة على القطاع ، فتواجه حينئذ إسرائيل معركة مع أشباح مجهولين الهوية ، و في نفس الوقت لا تستطيع إسرائيل أن تقف مكتوفة اليدين، و لا تواجه الأزمات الأمنية التي تُصدرها لها حماس ، عبر محاولات التسلل المتعددة للحدود ، أو غض قيادة حماس الطرف عن إطلاق بعض الصواريخ من فصائل مقاومة أخرى ، أو دعم وتوجيه حماس للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية.
ولم تُصدر حماس فقط أزمات أمنية لإسرائيل ، بل وصل الأمر لتصدير أزمات بيئية و صحية لإسرائيل ، مثل تلوث مياه البحر بمياه الصرف الصحي ، مما أدى ذلك لحرمان سكان غلاف غزة الإسرائيليين بشكل مؤقت من الاستجمام بشاطئ البحر المتوسط الممتد من ساحل قطاع غزة بسبب تلوث مياه البحر بفضلات سكان القطاع.
لذا من الواضح جدا ، أن قيادة الجيش الإسرائيلي بسبب حماس ، تعيش الآن في مأزق سياسي و أمني كبير، ولا تعرف كيف تتعامل مع قطاع غزة الذي كاد ينفجر في وجهها ، و الذي وصفه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت بالجحيم ، و أنه لا يمكن تهديد سكانه دوما.
أما على صعيد أخر، فأنه في الوقت الذي كادت أن تفشل به المصالحة الفلسطينية بشكل نهائي ، بسبب محاولة تفجير موكب رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد لله ، أثناء زيارته الأخيرة لقطاع غزة خلال شهر مارس 2018 ، تعاملت حماس بكل دهاء مع هذا الحدث الأمني الخطير وبكل هدوء ، حيث لم تنفعل قيادتها و لم يتوتر عناصرها ، بل حافظوا جميعا على برودة أعصابهم وتم بكل صمت إجراء تحقيق داخلي وملاحقة أمنية ، أدت لمقتل المشتبه الرئيس بحادث التفجير ، مما أغلق ذلك ملف القضية.
و بعد ذلك نجحت الحركة في إدارة دفة صراعها مع السلطة بكل مرونة و احتراف عن طريق دعمها ل مسيرة العودة الكبرى ، لتتجه كافة الأنظار لحدث أكبر يشبه بحشوده الضخمة يوم القيامة ، و يفوق بصورته الإعلامية الكبيرة أي حدث متعلق بفشل المصالحة.
وفي ظل أحداث مسيرة العودة الكبرى ، التي كانت أول فعالية لها في يوم الأرض بتاريخ 30 مارس 2018 ، تحول الرأي العام الفلسطيني بين ليله وضحاه من الشعور باليأس و الإحباط جراء تعرقل ملف المصالحة ، إلي شعور بالحنين لذكريات الماضي و حلم العودة ، و إلي شعور وطني فخور ، مشابه لمشاعر انتفاضة 87، التي تم إعلانها بدماء الشهداء و الجرحى ، مما منح ذلك الشعب اليائس و المحبط الحماسة و الثقة ، بأنه يستطيع أن يحشر إسرائيل في الزاوية ، و يُحملها تبعات الحصار على قطاع غزة ، و في نفس الوقت يثير انتباه العالم الخارجي تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين و قطاع غزة المحاصر.
وقد تسببت بالطبع هذه المسيرة الكبرى ، التي شارك بها ألاف الفلسطينيين بالقطاع بدعم من حماس وكافة الفصائل الفلسطينية ، في إحراج قادة الجيش الإسرائيلي الذي تحكمت حماس بصورتهم الخارجية ، وجرتهم لمربع الجندي العنيف الذي يقتل محتجين مدنيين يتظاهرون بشكل سلمي قرب الحدود.
لم تُدر حماس المعركة مع إسرائيل بذكاء فقط ، عن طريق دعمها لمسيرة العودة الكبرى، بل منذ بدأت تستقبل حماس بعض الوفود الأجنبية و الشخصيات العامة التي أوشكت أن تعترف بقيادة حماس، وبدأت تتناقش معها بجدية قضية حصار غزة ، عززت تلك الزيارات الدولية الاعتراف الضمني بحركة حماس، كممثل وحيد لقطاع غزة، و كحكومة الأمر الواقع التي لا يستطيع أحد أن يتجاهلها ، و لا تستطيع أي مؤسسه دولية أن تعمل بدون التنسيق معها.
و تستمر حركة حماس بإدارة أزمات القطاع بدهاء ، عبر تصدير كافة مشاكل القطاع لإسرائيل، وتحميلها مسئولية أعباء القطاع الإنسانية ، بصفتها دولة محتلة تحاصر غزة ، مع توجيه في نفس الوقت عقول الغزيين نحو مواجهة عدو واحد و رئيسي ، ألا و هو إسرائيل، و ليس حماس كما تحاول قيادة إسرائيل أن تروج لذلك.
ومع خلافات حماس الداخلية مع السلطة الفلسطينية ب رام الله ، لم تحرق حماس جميع جسورها مع رام الله ، بل نجحت بتحييد دور السلطة بغزة في جانب واحد ، ألا وهو مطالبتها دوما للسلطة بدفع نفقات القطاع من رواتب و كهرباء ومياه و صحة ، دون أن تُتيح للسلطة السيطرة الأمنية الشاملة على القطاع، أو أن تُسلمها بشكل نهائي كافة مفاتيح حكم قطاع غزة ، وذلك حتى لا يفشل مشروع حماس العسكري الكبير المدعوم من قبل إيران، والذي يتمثل بالاستعداد لحرب التحرير الكبرى ( حرب وعد الآخرة ) المخطط لشنها خلال العام 2022 حسب ما صرح به معظم قادة حماس.
و مع محاولات حماس المتعددة لتصدير أزمات قطاع غزة الإنسانية لإسرائيل وتحميلها مسئولية كل شيء من حصار و فقر و بطالة و انقسام فلسطيني ، تُدير حماس صراعها مع إسرائيل من قلب الضفة الغربية و القدس وداخل الخط الأخضر عبر دعمها المستمر للمقاومة الفلسطينية المسلحة في تلك المناطق و تشجيعها لأية عمليات هجومية يشنها المقاومين الفلسطينيين هناك، ضد أية أهداف إسرائيلية ، مما يجعل ذلك إسرائيل تشعر بالإرهاق و الجنون و التشتت من حصار حماس لها من جميع الجهات.
لذا حتى تلك اللحظة، نجحت حماس في تحدي إسرائيل، و نجحت في توجيه دفة أي أزمة بالقطاع نحو إسرائيل مباشرة، لكن المعركة بين حماس و إسرائيل لم تُحسم بعد ، و لم يتم حتى الآن الإعلان عن المنتصر النهائي !
حيث يتوقف ذلك النصر على مدى فعالية الإستراتيجية السياسية و الأمنية التي يتبناها كل طرف.
فإستراتيجية إسرائيل البعيدة المدى ، تعتمد حسب تصريحات قيادتها ، على اللحظة التي يمكن أن يتوفر بها بديلا لحركة حماس لحكم القطاع ، عندئذ لن تتردد إسرائيل بإعادة احتلال القطاع و القضاء على حماس نهائيا، ولكن في ظل عدم وجود بديل آخر لحماس ، تتخوف إسرائيل من احتمالية أن يسقط القطاع بأيدي جماعات متطرفة، و تتورط إسرائيل بفوضى أمنية مشابهه لما يحدث بسوريا و العراق.
وفي نفس الوقت، يمكننا القول ، بأن إسرائيل مشغولة في هذه المرحلة الحرجة بتهديدات حدودها الشمالية مع سوريا ولبنان ، و همها الأكبر هو إيران ، التي تعتبرها رأس الحربة في أية معركة مقبلة ، لذا على الأغلب ستحاول إسرائيل تأجيل معركتها الحاسمة مع حماس ، و ستترك إسرائيل حماس و شأنها بالقطاع، حتى لو كانت تُشكل لها صداعا كبيرا ، فلن تُشتت إسرائيل جهودها المكثفة في التصدي للمشروع النووي الإيراني ، من أجل حروب جانبية مع غزة ، وفي نفس الوقت ستستمر إسرائيل في سياستها بتدمير أنفاق غزة و التدمير التدريجي للبنية العسكرية لحماس عندما تسنح لها أي فرصة لذلك.
أما حماس فاستراتيجيها تكمن بالحفاظ على بقائها العسكري و استمرارها بقطاع غزة لأطول مدى ممكن ، وإدارة صراعها مع إسرائيل حسب رؤية قيادتها حتى موعد حرب التحرير الكبرى.
و يعتمد كل ذلك بشكل كبير على مدى قدرة حماس بحشد الرأي العام الفلسطيني و الدولي ضد إسرائيل ، و على مدى قدرتها باستقطاب مزيد من الدعم المادي والعسكري لترسانتها العسكرية بغزة ، من أكبر حلفائها في الشرق الأوسط إيران.
إن كل طرف يعلم خبايا معركته الداخلية ، و كيف يجد حل لأزمته السياسية ، لكن حتى الآن مازالت حماس هي الطرف المتفوق في معركة بقاءها و استمرارها بقطاع غزة و في صراعها مع إسرائيل ، حيث مازالت إسرائيل تظهر بشكل الرجل الذي يتلقى صدمات حماس باستمرار ويتفاعل معها بحذر ، و ذلك عبر تصدير حماس لإسرائيل عمليات عسكرية و أزمات إنسانية من كافة الجهات ، من غزة و الضفة و القدس وحتى من أراضي الخط الأخضر.
من سيفوز بالنهاية ؟
لن يتم الإجابة على ذلك السؤال الآن ، لأن معرفة إجابة هذا السؤال بشكل شبه نهائي ، قد تكون خلال الأربع سنوات القادمة ، عندما تستقر الأوضاع الإقليمية في الشرق الأوسط ، خاصة بسوريا ، و عندما تُعلن الولايات المتحدة الأمريكية موقفها النهائي من الاتفاقية الدولية للملف النووي الإيراني الذي يشكل قلق كبير لإسرائيل و حلفائها في المنطقة.
لننتظر ونرى ماذا سيحدث في المستقبل!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية