أصبح واضحاً أن حزب الليكود بات هو الحزب المهيمن على الساحة السياسية في إسرائيل حتى الآن؛ لأن الاستطلاع الأخير الذي أجراه معهد «ماجار ماحوت» أظهر أن الحزب الحاكم سيحظى بـ 34 مقعداً لو جرت انتخابات الكنيست اليوم. وهذا رقم صادم من ناحيتين: الأولى بعد تكسر النظام السياسي في إسرائيل واندحار الأحزاب الكبرى إلى أقل من 25% أي أقل من 30 مقعداً خلافاً للعقود الماضية، والثانية أن رئيس الحزب يخضع لتحقيقات مدججة بالأدلة بأنه الأكثر فساداً بين الذين مروا على قيادة إسرائيل.


أمام تلك المؤشرات ينبغي التفكير عميقاً في طبيعة العلاقة المستقبلية، فقد رسم الليكود خطوط هذه العلاقة في العقد الأخير مطيحاً بكل محاولات التسوية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ويعمل لإعادة هندسة العلاقة مع الشعب الفلسطيني بعيداً عن حل الدولتين الذي تحدث عنه مرة تحت ضغط الرئيس الأميركي السابق ليتحرر منه مع وصول ترامب للسلطة، والذي بات يشعر نتنياهو بأن هناك أكثر من رياح بل تسونامي من الهواء المنعش يداعب إسرائيل، هكذا قال في لقائه مع ممثلة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة التي وهبت نفسها للدفاع عن إسرائيل بكعب نعالها.


وإذا راقبنا فعل إسرائيل خلال العقد الماضي وهو فعل أنتجته مراكز دراسات جامعة «بار إيلان» التابعة لليمين ومفكرو اليمين الذين باتوا مرشدي الدولة من تدمير لحل الدولتين والقضاء على الاتفاقيات السابقة مع الفلسطينيين والتحلل منها وقدرته على قلب الأولويات الدولية والإقليمية لصالح التركيز على الخطر الإيراني وتراجع الاهتمام بالصراع الفلسطيني، وما تبع ذلك من ترجمات في الواقع السياسي الإقليمي وإعادة صياغة التحالفات بعد نجاح إسرائيل في ذلك ليصبح الخطر في الإقليم كما قال أحد الأمراء العرب ممثلاً بـ «تركيا وإيران والمجموعات المسلحة» وما شهدناه من تقارب عربي إسرائيلي.. كل ذلك كان منتج الفكر السياسي لحزب الليكود وليس سياسة عشوائية.


وإذا كنا عرفنا كل ذلك وراقبناه بعجز واندهاش فماذا يحمل المستقبل؟ وماذا يفكر حزب الليكود المرشح لاستمرار التفوق وقيادة إسرائيل؟ سؤال على درجة من الأهمية بحيث يحدد مسار التاريخ القادم بعد النجاحات التي حققتها السياسة الإسرائيلية خلال السنوات الماضية، منذ هيمنة اليمين على الحكم وقدرته على فرض حقائق في الضفة و غزة وفي الإقليم أيضاً؛ إذ تمكن من جر دول عربية من أنفها للتطبيع معه وللتساوق مع سياساته.


إن أخطر ما سمعته هذا الأسبوع كان من الصحافية السويدية «سيلفيا أودن» مراسلة الإذاعة السويدية، التي اعتادت زيارة غزة وإجراء مقابلات فيها، وعادة ما ألتقي بها، وقبل زيارتها الأخيرة الأسبوع الماضي، كانت قد أجرت مقابلة مع أحد أبرز مفكري حزب الليكود وهو «زئيف ماؤور» وقد كشف في تلك المقابلة عن تصور الحزب السياسي للمرحلة القادمة وتتلخص في ضم الضفة الغربية وإنهاء العلاقة مع قطاع غزة.


تحدث ماؤور للصحافية عن ضم ومواطنة في الضفة وملاحقة الهوية الوطنية واقتلاع الفلسطينية من الفلسطينيين، بل وتحويلها إلى تهمة تشبه النازية، أو على نمط معاداة السامية لمن يفكر بالمقاومة أو معارضة إسرائيل أي «شيطنة الفكر السياسي الفلسطيني وممارساته وثقافته وشعاراته لصالح الهيمنة الإسرائيلية»، ومن يعترض سوف يتم الزج به في السجن وصولاً لحالة استسلام تخشى التعبير عن نفسها نظراً للكلفة العالية التي ستدفعها.. والمثير في تلك المقابلة أن ماؤور لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد لغزة باعتبارها أصبحت منذ 2007 خارج الحسابات الديموغرافية، وخرجت من بطن إسرائيل، كما قال سابقاً ذات مرة الكاتب في صحيفة «معاريف» شالوم يروشالمي.


إن إجراءات الليكود الأخيرة الواضحة للعيان لا تترك مجالاً للشك فيما قاله مفكر الليكود. فقد عقد الحزب، في اليوم الأخير من العام الماضي، مؤتمراً هو الأول من نوعه الذي يعقد بهذا الشكل وضم 900 من قادة الحزب ليصوت بالإجماع على فرض السياسة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وما تبع ذلك من تشريعات برلمانية بسريان القانون الإسرائيلي وشرعنة المستوطنات.. كل تلك الإجراءات بات من الواضح أنها ليست النهاية، بل كما يفهم أنها هي المقدمة لعملية السيطرة الكلية على الضفة الغربية.


الاحتجاج الذي صدر عن أطراف في الحكومة الإسرائيلية وزعماء الاستيطان ومسؤولين كبار في حزب الليكود، على ما جاء في خطاب الرئيس التنفيذي لإيباك «هوارد كوهر» الذي طالب بحل الدولتين، يعكس منطق السياسة القادمة على الرغم مما يقال عن صفقة تضمن دولة فلسطينية مشوهة، لكن الحقيقة قد تكون أكثر صدقاً وسط هستيريا التجمعات الجماهيرية وردود الفعل غير المنضبطة بقولهم بصراحة شديدة أثناء الاحتجاج : «إن سياسة الحكومة الرسمية تعارض إقامة الدولة الفلسطينية»، مطالبين كوهر بالتراجع عن تصريحاته التي تتناقض مع ما هو قائم في إسرائيل.


قبل الانتخابات الأخيرة التي جرت مطلع 2015، كان لافتاً أن يتجنب حزب الليكود نشر برنامج سياسي يتجاهل اتخاذ موقف رسمي بشأن إقامة دولة فلسطينية، ولم يتطرق إلى موضوع الحل. الآن يتضح أن ذلك لم يكن مصادفة ولا سقطة عابرة بقدر من أن الفكر السياسي للحزب اليميني أكثر تطرفاً من أن يتم الإعلان عنه، بل هو خطة متدحرجة وسرية لتدمير كل الحلول، وكذلك لإكمال السيطرة على الضفة ومواطني الضفة.


خروج كتلة غزة من الحسابات أعطى لليهودية متسعاً لتبقى الأغلبية؛ عندما يتم السيطرة على الضفة.. وهنا يجب أن يهتز تاريخ الفلسطينيين بسبب سذاجتهم في إدارة السياسة، وأن ينزوي فاعلو تلك المرحلة التي كان يتم استدراج كل أطرافها دون تفكير نحو الفكر والبرنامج الإسرائيلي، وأكثر نحو إبقاء الانقسام دون إعلان حالة الاستنفسار السياسي وبذل أقصى ما يمكن لعودة غزة لغلاف السلطة.


ما يحدث على جانبي الحدود التي لم ترسم بعد يعكس نوعين مختلفين تماماً من التفكير، وليس المهم هنا هو التناقض والتباعد في منطق فهم المستقبل، بل الهوة الكبيرة بين المستويات: مستوى يفكر لعقود قادمة وإستراتيجيات منظمة جداً، وعلى الجانب الآخر تعمل السياسة بما يشبه العشوائيات المتصارعة بلا نهاية.. هنا عمق الأزمة ..!

tallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد