يبدو أن ملف المصالحة الفلسطينية ، قد تحول إلى قضية موسمية، لا تحكمها اتفاقيات، ولا تخضع لحسابات أخلاقية، وهو كالذي تعرض للسم ينتظر الترياق، فإن توفر عاش المصاب، وإن تأخر كثيراً يكون الموت الزؤام. 


بعد أسابيع من الهدوء على حركة المصالحة، لم تتوقف خلالها الشكاوى والمناشدات، والتصريحات الواعدة بعمق الالتزام بتحقيقها، باعتبارها أقصى وأول الاستحقاقات، يعود الحديث مجدداً، عن لقاء مرتقب في القاهرة بين " حماس " والمخابرات المصرية، وعن وفد فتحاوي سيقوم بزيارة القطاع. 


ضيوف ومستقبلون هكذا أصبح الحال بين أبناء البيت والوطن الواحد، ثمة من يعلن الرغبة في الزيارة وآخر يرحب بالزائرين، أما المواطن فهو خارج الحساب، لا علاقة له بالزائرين ولا بالمستقبلين، ولا يملك سوى أن يرفع كلتا يديه للسماء داعياً بتغيير الحال إلى حال أفضل. 


مزيد من الوقت الدامي يمر على وضع فلسطيني مزر وضعيف إلى أبعد الحدود، في مواجهة مخططات إسرائيلية أميركية تعد الفلسطينيين بما هو أخطر كثيراً وجذرياً مما يعانون منه من مخاطر حتى الآن وفي ظل أوضاع عربية ودولية لا تسرُّ صديقاً ولا تكيد عدوّاً.


وعلى الرغم من أن الكل يتحدث عن مرحلة جديدة من الصراع والنضال الوطني التحرري إلاّ أن ملامح هذه المرحلة لم تتضح بعد، إذ لا تترجم ذاتها في تغيير واضح وجذري يناسب طبيعة هذه المرحلة. 


المواقف السياسية التي اتخذتها القيادة، والتي أقرها المجلس المركزي جيدة ومناسبة حتى الآن وإن كانت غير مكتملة، ويمضي الوقت من دون ترجمات عملية.


غير أن هذه المواقف والقرارات تبقى معلقة في الهواء، طالما لا تتوفر لها الأدوات المناسبة لوضعها موضع التنفيذ، فلا السلطة وحركة فتح وحدهما قادرتان على مجابهة استحقاقات ومخاطر السياسة الأميركية الإسرائيلية، ولا "حماس" والمقاومون معها قادرون على ذلك. 


كل شيء على حاله من حيث الخطاب العام، ومن حيث المؤسسات الوطنية، وسلطات اتخاذ القرار، ومن حيث الأداء أيضاً، فيما تؤشر الوقائع على أن لا أمل بإمكانية عودة الدم في عروق عملية السلام. 


الأميركيون متمسكون بما اتخذوه من مواقف وسياسات ويتمادون في اتخاذ المزيد من القرارات والإجراءات، فيما تسابق إسرائيل الزمن نحو اتخاذ قوانين وقرارات، لاستثمار الموقف الأميركي نحو تنفيذ مخططاتهم التوسعية والعدوانية، وتطلعاتهم العنصرية. 


الطريق مقفل أمام عملية سلام حتى وفق ما هو أقل من الحد الأدنى للحقوق الفلسطينية التي تقررها الشرعية الدولية، ولا سبيل لأي مخارج من هذا الاستعصاء، فالكل متمترس حول رؤيته. عبثاً تحاول الولايات المتحدة أن تنتظر من الفلسطينيين تنازلات، يمكن أن تحرك جسد السلام الميت، حتى لو كانت أوضاع الفلسطينيين ضعيفة، وتفتقر لأدوات هزيمة المخططات، الإسرائيلية الأميركية في هذه المرحلة.


يمكن أن نتفهم حاجة القيادة الفلسطينية لمواصلة الالتزام بخطاب السلام كضرورة مرحلية، لاستقطاب المجتمع الدولي إلى جانب الحقوق الفلسطينية ونفهم ونتفهم أن يتأخر الفلسطينيون في الإعلان عن استراتيجية وطنية شاملة تناسب المرحلة الجديدة، ولكن أي مواطن فلسطيني لا يمكن أن يفهم أو يتفهم أسباب استمرار الوضع الفلسطيني على الحال الذي هو عليه. 


اختلفوا مع بعضكم ما شئتم الاختلاف، واستمروا في الحوارات العبثية، والزيارات غير المجدية، وتبادلوا ما شئتم من اتهامات، ولكن لا يحق لكم أن تهملوا المواطن الفلسطيني الذي عليه تتكلون لحماية الأرض والحقوق ومجابهة التحديات ودفع الثمن.


الكل يعلن عن حق أن لا دولة في غزة ولا دولة من دون غزة، الأمر الذي يؤكد وحدة الحقوق، ويشير إلى أهمية غزة وسكانها في مواجهة مشاريع التصفية. غير أن الوقائع في غزة تشير إلى أن ثمة استهتارا وتجاهلا لدور مليوني إنسان، بما يخالف طبيعة التاريخ. غزة أيها السادة هي التي حملت المشروع الوطني منذ البدايات، ومنها انطلقت كتائب الفدائيين، وغزة هي التي أفشلت في العام 1955، مشروع التوطين في سيناء، وغزة هي التي دفعت آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى والأسرى، وغزة هي التي ترفض إقصاءها وتحييدها من قبل الاحتلال الإسرائيلي. غزة اليوم تحتضر تحت وطأة الحصار الشامل، المشدد، يفرح أهلها لأبسط التحسينات، فتكون العودة لبرنامج أربع ساعات وصل واثنتي عشرة ساعة قطع للتيار الكهربائي، أمراً مهماً.


في غزة الأسواق طافحة بالبضائع والفواكه والخضراوات، رخيصة لكنها لا تجد من يشتريها. التجار مفلسون ويبيعون بضائعهم بالخسارة في محاولة للحصول على "الكاش" لسداد ديونهم المتراكمة. هل سمعتم في أي مكان على وجه الأرض أن القطاع الخاص ورجال الأعمال والتجار هم من يبادرون إلى دعوة الناس للإضراب إلاّ في غزة؟


الأمراض الاجتماعية والأخلاقية أصبحت متفشية في القطاع، ومشاهد الفساد والأطفال وهم يمدون أياديهم سائلين رغيف خبز أو شيكلا، تدمي القلوب. من "كرم أبو سالم" وهو المعبر المخصص لمرور البضائع استيراداً وتصديراً، لا تزيد الشاحنات التي تمر يومياً على مئتي شاحنة وكانت تزيد على ثمانمائة شاحنة قبل ذلك والكثير من التجار بدؤوا يفكرون جدياً بوقف الاستيراد.


واضح أن المواطنين قد فقدوا قدرتهم على الشراء، أما ان كان علينا أن نقدم المزيد من المشاهد المؤلمة والتفصيلية فإننا سنحتاج إلى صحيفة كاملة دون أن نفي الواقع حقه. 
وفق هذا يصرح ملادينوف مبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام، أن التمويل الخاص بتوفير الوقود للمستشفيات والبنية التحتية سيتوقف مع نهاية الشهر القادم. في ظل هذا الوقع الذي يزداد مأساوية، نتساءل عن أي صمود وعن أي تحد يمكن أن ينتظره المسؤول من سكان قطاع غزة، الذين ينتظر أكثر من 50% منهم فرصة للهجرة؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد