عادة ما تكون كلمة الرئيس، هي بمثابة الإطار أو المحدد أو الموجه لسير الحوار أو النقاش أو الجدل الذي يدور في جلسات المجلس المركزي، الوطني، الثوري، أو حتى في أي اجتماع آخر، ذلك أن الرئيس إنما هو قائد الدفة وربان السفينة، وكلمته تجيء عادة في افتتاح الجلسات، لكن رغم ذلك، فإنه أحياناً وحين يكون الرئيس لم يحسم أمره _بعد_ تجاه قضية ما أو تجاه بعض المواقف، فإن حديثه عنها يجيء غير قاطع، ويترك المجال لسماع وجهات النظر، أو لتفاعل الرأي ليخرج الموقف الرسمي أكثر وضوحاً، استناداً إلى العقل الجماعي.
برأينا هذه المرة، لم تكن كلمة الرئيس محمود عباس هكذا، بل جاءت واضحة وصريحة، حادة وقاطعة، تضع النقاط على حروف الموقف الفلسطيني دون تلعثم ودون ترك أية أبواب مواربة، ذلك أن جلسة المركزي تنعقد بعد إعلان الولايات المتحدة اعترافها ب القدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وما تلاها من إجراءات بتصعيد الموقف إلى تخوم المواجهة الشاملة السياسية والميدانية من قبل إسرائيل، التي تشجعت كثيراً من قوة الموقف الأميركي غير المسبوق بانحيازه إلى هذا المستوى لها.
ولأن الموقف الفلسطيني الرسمي هذه المرة، مطلوب منه موقف تجاه أميركا أكثر منه تجاه إسرائيل، فقد جاء الرد على الإعلان الأميركي بسحب القبول الفلسطيني بالرعاية الأميركية للمفاوضات السياسية الهادفة لإيجاد الحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والذي استمر منذ عام 1993 وحتى العام 2014 بشكل متواصل .
في نفس الوقت لم يتطير الموقف الفلسطيني، وقوته تكمن برأينا في أنه ليس انفعاليا، رغم صلافة الإعلان الأميركي المتناقض مع كل الدنيا، فهو لم يتطرف ليقول برفض المفاوضات من حيث المبدأ، ذلك انه أولا وأخيرا، لن ينتهي الصراع، ولن يصل الطرفان إلى حل مرض ومقبول عليهما سوى بالتفاوض، لذا فإن إعلان رفض الوساطة والرعاية الأميركية دون طرح بديل يعني رفض المفاوضات من حيث المبدأ، بما يضعف سياسياً من الموقف الفلسطيني ويظهره على أنه ناجم عن تطير أو تطرف، كما أن إعلان بديل يمثل دولة أُخرى، يعني انتقال الطرف الفلسطيني إلى تحالف دولي أو إقليمي ما، لذا فان الرئيس قال بالأمم المتحدة راعياً تفاوضياً وهي تمثل الإجماع العالمي، ولديها أساس قانوني عبارة عن جملة قرارات بالخصوص، للحل، ولم يقل بروسيا أو الصين مثلاً، وترك لإسرائيل أن ترفض الرعاية الدولية وتتحمل تبعات ذلك.
ولأن الرئيس وبعد ماراثون تفاوضي استمر ربع قرن، لا يمكنه أن يبيع الوهم لشعبه، فقد أدرك موقفه الذي يؤكد على قبول التفاوض بالرعاية الدولية، بأن التفاوض لن يؤدي إلى دحر الاحتلال، نظراً لميزان القوة الحالي وللظروف الدولية والإقليمية، حيث لابد من مواصلة المقاومة الشعبية السلمية، وهذا يعني أن طريق المقاومة يجب أن يطلق كل طاقات الشعب، ولا يقتصر لا على نخبة مسلحة مثلا، أو شبابية أو فصائلية.
ولأنه الرئيس يقول بسلمية المقاومة الشعبية، وحتى تكون شعبية فلا بد لها أن تكون سلمية، أي أن الشعب الفلسطيني مدعو لإطلاق انتفاضة شعبية، يمكن أن تترافق مع مقاومة النخبة الفصائلية أو المسلحة لكن بموازاة الحراك الشعبي وليس من داخله، فالمقاومة الشعبية نفسها يجب أن تكون سلمية، وإلا تعرض الشعب لمجازر، وإلا لتعرضت الانتفاضة الشعبية للفوضى، كما حدث عام 2000 .
من خلال المقاومة الشعبية السلمية يعلن الشعب كله عن رفضه للاحتلال وعن خياره بالاستقلال، فيما يمكن لمجموعات المقاومة أن تقوم بعمليات مقبولة ضد الاحتلال العسكري، ذلك أن الاحتلال الإسرائيلي إنما هو احتلال مركب، عسكري ومدني يشمل كل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعيشية. ولا بد من إحداث كلفة في كل الجوانب، أي يجب أن يخسر الاحتلال من احتلاله اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وبشرياً.
في الوقت نفسه، يدرك العقل السياسي الفلسطيني بأن النصر لن يحدث بالضربة القاضية، لأنه في هذه اللحظة ليس هناك شعرة دقيقة بين النصر والهزيمة، بل سيحدث الحسم في نهاية المطاف بتراكم النقاط، حيث لا بد أن يتحلى الشعب المكافح من أجل الاستقلال بطول النفس وبالثقة في النصر في نهاية المطاف، لذا لابد من الحفاظ على المكتسبات التي تحققت بعد كفاح مسلح وبعد انتفاضتين وهبات شعبية عديدة ومتتابعة. فقال بالحفاظ على مكتسبات الدولة الفلسطينية، وميز هنا بين الدولة والسلطة، فلم يقل مكتسبات السلطة، حتى لا يفهم أن المقصود، المكاسب البيروقراطية أو الوظيفية أو مظاهر سلطة الحكم الذاتي، التي هي فعليا بلا سلطة.
أي المقصود هو المتحقق دوليا من كون فلسطين دولة تحت الاحتلال، ومن وجود شبكة علاقات دولية تربط فلسطين بالعالم، ذلك أن فلسطين اليوم موجودة على الخريطة السياسية للعالم وهذا مكتسب سياسي عظيم، وضع حدا لهدف صهيوني قديم يتمثل بتبديد الهوية الفلسطينية، وهذا المكتسب يحقق سنداً دولياً سياسياً وقانونياً للمقاومة الشعبية السلمية حين تنطلق ويحميها من غدر العدو وبطشه، كذلك هناك بعض مظاهر السيادة على الأرض.
أما إشارة الخطاب لقصيدة مظفر النواب "القدس عروس عروبتكم" فكانت بمثابة صرخة أو لطمة في وجه الموقف العربي المتخاذل تجاه إعلان ترامب، وكان الخطاب قوياً في إعلان رفضه الصريح والعلني ومن أعلى مستوى سياسي لصفقة العصر قبل أن تعلن، لأنه يعرف مضمونها، كذلك فتح الباب لتجديد قوة الدفع بالكفاح الفلسطيني حين ذكّر بجوهر وطبيعة إسرائيل من حيث كونها مشروعا استعماريا بالأساس، ثم بعد ذلك للمجلس ولمن فيه من قوى وفصائل تحمُّل مسؤوليتاهم الوطنية والتي هي ليست على المستوى الرسمي فقط، وهذا ما سيظهر ليس فيما سيعلنه المجلس، بل فيما سيلي انعقاد الجلسة من تشكيل لجان وتجمعات تكون في مستوى الحدث، فتترجم الموقف إلى خطة عمل، تهندس جبهة المقاومة الشعبية السلمية، لتكون هي الإطار القيادي وهي الحكومة، وهي السلطة والقيادة في آن معاً.
Rajab22@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية