لم يكن ياسر عرفات، المعروف بلقب أبو عمار، مجرد قائد فلسطيني، بل كان رمزًا عالميًا للنضال الوطني والتحدي في وجه الاحتلال. مثل عرفات، لسنوات طويلة، القضية الفلسطينية أمام العالم، جامعًا بين العمل الدبلوماسي والمقاومة العسكرية، مجسدًا بذلك صورة القائد الحكيم والمحنك. لم يكتفِ بالشعارات الرنانة أو الخطابات العاطفية التي لا تقدم حلاً فعليًا، بل كان رجلًا عمليًا يُؤمن بالأفعال على الأرض، واضعًا نصب عينيه هدفًا واضحًا وهو تحقيق حقوق شعبه.
كان أبو عمار شخصية تتميز بمعرفة عميقة بآليات العمل السياسي، يمتلك رؤية استراتيجية واضحة مكنته من توجيه المقاومة وإدارتها بشكل يخدم مصالح الشعب الفلسطيني. تميز بقدرته على بناء علاقات واسعة مع مختلف الدول والشخصيات المؤثرة حول العالم، سواء في الدول العربية والإسلامية أو حتى في الدول الأجنبية. ولعل إحدى الشواهد على ذلك علاقته المميزة بالرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، الذي استجاب بتقدير كبير لتدخل عرفات في حل أزمات شائكة، معبرًا عن استعداده لمساعدته كلما احتاج الأمر.
كان اهتمام أبو عمار بالشأن الفلسطيني شاملًا ومتابعًا لكل التفاصيل، سواءً في الداخل الفلسطيني أو خارجه، فلم يكن غريبًا أن يتصل بالمحرر المناوب في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" في ساعات الليل المتأخرة، ليطلب تعديل خبر أو تصحيح فقرة مما يظهر حرصه على دقة المعلومات وصورتها أمام العالم.
وقد حاز على محبة وولاء كل من عمل معه، إذ كان يعرف بدقة قدرات كل فرد من أتباعه والمقربين منه، ويضعهم في المواقع التي تليق بهم وتخدم القضية. فكان يختار بدقة من يحمل المسؤوليات الكبيرة، ويراعي في ذلك أن تكون الشخصية المناسبة في الموقع المناسب، حتى وإن كانت قراراته في بعض الأحيان تثير التساؤلات، إلا أنها كانت دائمًا مدروسة ومبنية على فطنته ومعرفته بالرجال.
لم يكن عرفات يتعامل مع السياسة بشكل تقليدي؛ فهو على سبيل المثال، على الرغم من علاقته الوثيقة بالرئيس العراقي صدام حسين في ذلك الوقت، حافظ على تواصل فعّال مع إيران، الدولة التي كانت تعتبر خصمًا للعراق. عكس هذا التواصل حرصه على إبقاء القضية الفلسطينية في قلب الدبلوماسية الإقليمية والدولية، مسخرًا شبكة علاقاته لخدمة فلسطين.
تَميَّزت حياة أبو عمار بالصبر والكفاح المتواصل، ولم يكن يعرف التراجع أمام التحديات، مهما كانت شاقة. لقد استطاع بجسارته وصبره أن يكسب احترام العالم، وجعل القضية الفلسطينية قضية تحظى باهتمام دولي، وظل، حتى آخر أيامه، صامدًا ومدافعًا عن حقوق شعبه، مؤمنًا بأن النصر يأتي بالتضحيات.
رحل أبو عمار تاركًا إرثًا غنيًا من النضال والكفاح من أجل الحرية، وأصبح رمزًا خالدًا يُحتفى به كقائد ملهم، وقوة لا تعرف الهزيمة في سبيل فلسطين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية