في الرواية الروسية (الجريمة والعقاب) للكاتب الروائي (فيدور دوستويفسكي) تتناول موضوع الجريمة بطريقة فلسفية نفسية، وبطلها (راسكولينكوف) طالب جامعي يعجز عن إكمال تعليمه بسبب الفقر، يتعرّف على فتاة ليل تمتهن الدعارة لتوفير الطعام لأسرتها؛ فيبرر لنفسه جريمة قتل امرأة عجوز مرابية وسرقة خزنتها لينقذ الفتاة من الضياع في مستنقع الرذيلة ويستكمل دراسته الجامعية، مُعتقداً في ذاته أنه من العظماء الذين يحق لهم تجاوز القواعد الأخلاقية والقانونية التي يفرضها المجتمع ليلتزم بها الناس العاديون من أجل تحقيق أهداف كُبرى سامية لشعوبهم وللبشرية، فإذا كان يحق لهؤلاء العظماء تجاوز تلك القواعد وقتل الملايين من البشر والتسبب بالمعاناة لملايين أخرى فلماذا لا يحق له قتل امرأة عجوز واحدة (ضارة لا لزوم لها) من أجل )هدف نبيل(، ولكنه اكتشف بعد تنفيذ جريمته أنه ليس من العظماء، فقد دخل في نوبات ذعر وهذيان، وسيطرت عليه مشاعر الذنب وتأنيب الضمير، وأصبح أسيراً لتبعات جريمته وعاجزاً عن تحمل جُرمه، فوجد أن الاعتراف بالجريمة أمام الشرطة لينال العقاب الذي يفرضه القانون أرحم من عقاب الذات.
والشعور الوهمي بالعظمة والتميز الذي سيطر على بطل رواية الجريمة والعقاب هو نفس الشعور الذي يوحي للزعماء بتجاوز القواعد الأخلاقية وتحطيم القيم الإنسانية لتحقيق أهداف يعتقدون أنها نبيلة، وقد تكون كذلك ولكن الوصول إليها وتحقيقها قد يكون مُكلّفاً يذهب ضحيته الآلاف وربما الملايين من البشر سواء بإزهاق أرواحهم أو بإزهاق إنسانيتهم وتحطيم حاضرهم ومستقبلهم وتقويض أمالهم وطموحاتهم، وربما ما يحدث لأهل غزة من مأساة إنسانية لا يبعد كثيراً، وإذا كان بطل رواية الجريمة والعقاب قد نال عقابه النفسي والقانوني فإن الجريمة التي تحدث في رواية غزة المأساوية تمر بدون عقاب، وربما لكثرة أبطالها واختلاف فصول روايتها وتعدد الجناة في أحداثها. فرواية غزة المأساوية جزء من الرواية الفلسطينية التي بدأت فصولها منذ وعد بلفور ف النكبة ثم العدوان الثلاثي فالنكسة وصولاً إلى الانتفاضة الأولى التي كتب فيها الشعب الفلسطيني فصلاً بمداد الدم على صفحات البطولة التي وُقعت في آخر أرواق فصلها اتفاقية أوسلو.
اتفاقية أوسلو افتتحت فصلاً جديداً من تاريخ الشعب الفلسطيني بإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية ليست على أرض مُحررة كما جاء في البرنامج المرحلي بل على أرض تحت الاحتلال وبجوار الاستيطان، وبغض النظر عن الموقف السياسي من أوسلو والسلطة فقد أصبحت هي المسؤولة عن السكان الفلسطينيين في الضفة والقطاع بموجب اتفاقية أوسلو والقانون الدولي وأمام المجتمع الدولي كما نص البند السادس منها « نقل السلطة من الحكومة العسكرية الإسرائيلية وإدارتها المدنية إلى الفلسطينيين المخولين بهذه المهمة» . وانتهت المرحلة الانتقالية بسنواتها الخمس دون أن تتحوّل السلطة إلى دولة، والذي حدث أن (إسرائيل) تخلّصت من عبء السكان واحتفظت بالأرض... فاندلعت الانتفاضة الثانية لتصويب خطيئة أوسلو... وكان أحد نتائجها الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، ومن ثم دخول حركة حماس في سلطة لا تعترف بمرجعيتها القانونية (أوسلو) وليست جزءاً من مرجعيتها السياسية (المنظمة) وتتناقض مع برنامجها السياسي... فكان الانقسام الذي أفرز سلطتان متخاصمتان: تحت الاحتلال في الضفة وتحت الحصار في غزة.
تكرست معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال في الضفة، ولكن معاناته في غزة كانت أكبر بفعل ثلاثية الاحتلال والحصار والانقسام، وبسبب الآثار المُدّمرة للحروب العدوانية الثلاث المتتالية على غزة، إضافة إلى عجز حكومة غزة التي شكلتها حماس عن توفير احتياجات الناس الأساسية، وتخلّي حكومة السلطة في رام الله تدريجياً عن مسؤولياتها تجاه غزة، وكان آخرها اتخاذ الإجراءات العقابية تجاه غزة بداية العام الماضي رداً على تشكيل حماس اللجنة الإدارية العليا لإدارة قطاع غزة... واتجهت الأمور فيما بعد نحو توقيع اتفاقية المصالحة بين الحركتين في القاهرة فحلت حماس لجنتها الإدارية وجرت مراسم تسلم الوزارات في غزة وانتظر الناس الفرج ولكن مصطلح التمكين اللعين خرج لهم من بين فصول المأساة وصفحات المعاناة.
المصالحة إذن- حتى الآن على الأقل- لم تنهِ فصول الرواية المأساوية لأهل غزة، وللأسف ازدادت صفحاتها سواداً، والعرض المسرحي لفصول الرواية التراجيدية لا زال مُستمراً، رغم أن الاحتلال وكيانه هو المسؤول الأول عن كتابه الرواية المأساوية للشعب الفلسطيني كله، إلا أن بعض فصولها قد كُتبت بأيد فلسطينية، ومنها جزء كبير من مأساة غزة، ومن هذا الجزء المعاناة التي نتجت عن الانقسام وآثاره وتبعاته بما فيها جريمة العقوبات على غزة التي عمّقت المعاناة وكرّست الفقر ورسّخت البؤس، وآن الأوان أن يدرك عظماء القادة وعليّة القوم وأولي الأمر في السلطة المسؤولون عن ذلك أن استمرار فرض العقوبات على غزة جريمة ولكنها تمر بدون عقاب ولا تخدم أي هدف نبيل ولا يحقق أي مصلحة وطنية، بل يُدّمر بقية الحياة ويضيع بصيص الأمل ويسحق حاضر الناس ويحطم مستقبل الشباب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية