العالم يتغير والتحولات هائلة وسريعة والتحالفات تتبدل بشكل دراماتيكي، وعصر السرعة يجعل مما كانت تتطلبه الأحداث على امتداد نصف قرن قد يتغير في خمس سنوات. 


هذه هي الحقائق التي أطل عليها العالم في القرن الجديد، مع انتهاء النصف الثاني للقرن الماضي الذي شهد أحداثاً ضخمة أعادت رسم خارطة المنطقة وطردت الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. 


وفيما كان الاستعمار يفكك قواعده ويرحل من المنطقة كانت هذه المنطقة على موعد مع احتلال جديد ومن نوع مختلف هو الاحتلال الإسرائيلي الذي حدد شكل المنطقة وتحالفاتها ونظمها السياسية وعلاقاتها ونشوء أحزابها وانقلاباتها حتى.


شهدت إيران على مدى الأسبوعين الماضيين أحداثاً وتظاهرات في معظم مدنها، احتجاجات ضد نظام الحكم قتل فيها العشرات من الذين خرجوا للاحتجاج على تردي الأوضاع الاقتصادية ببلادهم التي أرهقها الحصار وأولوياتها الخارجية من دعم لدول وحركات في المنطقة العربية ما تطلّب أن تضخ أموال كبيرة في موازنات حلفائها، وهذا أدى لاستنزافها وخصوصاً أن حلفاء خصومها تقف خلفهم دول نفطية وغاز كما حدث في سورية.


الاتفاق النووي مع إيران جعل الإيرانيين يعتقدون أنه سيتم رفع الحصار عن بلدهم بالاستثمارات الأوروبية التي كان يسيل لعاب الأوروبين عليها، إذ كان يتوقع المراقبون أن يجري استثمار نصف ترليون دولار لأوروبا في إيران. 


لكن فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي دفع باتجاه عقاب أي شركة أوروبية تستثمر في طهران ومقاطعتها من قبل الشركات والبنوك الأوروبية أدى لإحجام هذه الشركات وتراجعها، فبقيت إيران تحت الحصار مع استمرار دعمها الخارجي لحلفائها ما أرهق خزينتها وهذا كان له ارتداداته الداخلية على الوضع الاقتصادي وزيادة البطالة.


مع بداية التظاهرات في إيران كان الرئيس الأميركي حديث العهد بالسياسة يسارع بتلقف اللحظة التي ظهرت بالنسبة له كحلم لا يريد أن يفلت ليكتب تغريدته الشهيرة على تويتر، وهو الذي كان قد هدد منذ حملته الانتخابية بالتراجع عن الاتفاق النووي معها لولا رفض دول أوروبا الشريكة بالاتفاق، فلو كان ثنائياً ربما لفعلها تحت تأثير الملياردير شلدون أدلسون واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، وكذلك فعل بنيامين نتنياهو المسكون بهاجس إيران حتى قبل أن يعرض كاريكاتيرا كان مدعاة للسخرية في الأمم المتحدة، محذراً من القنبلة الإيرانية وهو صاحب مقولة "هدم الهيكل الثالث" متعهداً للشعب الإسرائيلي في حملاته الانتخابية بتخليصهم من هذا الكابوس، وها قد حانت اللحظة فالشعب الإيراني يتحرك لإسقاط الحكم.


عندما قامت الثورة الإيرانية بقيادة الخميني الذي عاد من منفاه برفقة حراسات أرسلها له الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كان كثير من النواة العسكرية للدولة ممن تدربوا في قواعد الثورة الفلسطينية وأبرزهم محسن دوست أول وزير دفاع لإيران الذي كان يعتبر نفسه في البدايات من خريجي مدرسة حركة فتح، وفي زيارة التهنئة الأولى التي قام بها الزعيم عرفات قائد منظمة التحرير الفلسطينية للخميني مصطحباً وفداً رفيعاً اشتكى الخميني من أن أجهزة الأمن في الدولة هي من إرث الشاه فماذا يفعل؟ حينها اقترح عليه الرئيس عرفات تشكيل الحرس الثوري لحماية الثورة وقد كان.


هو نفسه الحرس الثوري الذي يحمي النظام في إيران وهو الذي يدعم الآن خصوم المنظمة ...منظمة التحرير الفلسطينية في الساحة الفلسطينية وهؤلاء الذين سجل عليم القيام بانقلاب ضد سلطة المنظمة وطرد رئيسها من قطاع غزة ، وهذا أحدث شرخاً هائلاً في العلاقة الفلسطينية الإيرانية وأدى إلى توتر في هذه العلاقة وغضب في أوساط حركة فتح واضح أن الزمن لن يمحوه بسرعة.


التحالف الذي يستنفر نفسه ضد إيران لإسقاطها هو نفس التحالف الذي يريد تصفية القضية الفلسطينية "الولايات المتحدة، إسرائيل، بعض دول الخليج" والتي اعتبر وزير خارجية إحداها أن القضية الفلسطينية قضية هامشية بعد أن أرسل وفداً تطبيعياً إلى إسرائيل هل هذه مصادفة ؟ أم أن تبدل الأولويات في الإقليم جعل القضيتين الفلسطينية والإيرانية تواجهان نفس الخصم المشترك؟


أول ما قامت به الثورة الإيرانية العام 1997 هو طرد السفير الإسرائيلي بعد أن كانت إيران الشاه الحليف الأول لإسرائيل في المنطقة، ويعتبر جهاز الموساد الإسرائيلي هو الابن الشرعي لجهاز السافاك الإيراني الذي تتلمذ على يده هذا التحالف المشترك آنذاك ضد العرب والحالة العربية برمتها، وبعد طرد السفير وإسقاط العلم الإسرائيلي أهدت إيران تلك السفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية ورفعت العلم الفلسطيني فوقها.


إن سقوط إيران مهما كان حجم الاختلاف الذي قد يصل حد الغضب من تدخلها الداخلي في الشأن الفلسطيني يجب ألا يخفي حقيقة سقوط دولة غير عربية بهذا الحجم في الجيب الإسرائيلي بل وانضمامها إلى تحالف تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ذراع ضاربة للمصالح الأميركية في المنطقة كما تاريخها السابق.  


وهذا سيكون على حساب العرب الذين يعتقدون بسذاجة أن هذا في صالحهم، لأن لا مكان للمصالح العربية وسط صراعات الدول الكبرى، فهم ليسوا أكثر من كيس أموال بنظر العالم تدفع لصالح تلك الدول بل تتمكن القوى العظمى من تحويلها باتجاه برنامجها المعلن "الملف الفلسطيني والضغوط التي يتعرض لها نموذج لذلك" مقابل بقائها في الحكم.


في لقاء مع السفير الروسي الشهر الماضي فوجئت أن بعض الكتاب من حركة حماس يسمعون الرجل إدانتهم للتدخل الروسي في سورية وتحدثوا عن المجازر والكيماوي وغيره، وكان ذلك مثار استغراب، وبعد اللقاء سألت أحدهم: ماذا تريدون بالضبط أليس هذا من عزز حليفكم الإيراني وتحالفه في المنطقة؟ وإذا كانت الحركة تدين التدخل الروسي وتقولها للسفير فهي لا تقول ذلك للجنرال قاسم سليماني عندما يتصل بكم وهو الذي قام بنفس الدور الروسي في سورية. تلك من مفارقات السياسة لدى الفلسطينيين، لكن المعادلة أن حماس تريد إيران، وتريد من إيران أن تترك سورية تسقط في يد الإخوان المسلمين والدواعش وحلفاء قطر وهكذا.


إن نشوة الفرح الإسرائيلي الأميركي النفطي بالتظاهرات في إيران يفترض أن تحدث صدمة في الأوساط العربية والفلسطينية التي تتعرض لمحاولة سحق وتسهل تلك النشوة على الجميع تحديد موقف واضح منها بعيداً عن المذهبية القاتلة، لأن الحكم على الأشياء هو حكم وطني شديد السطوع من يقف في مواجهة نتنياهو وترامب هو حليف وإن كان غير مباشر، ومن يقف معهم هو خصم شديد أما حين تسقط المعايير في حُفر المصالح والمذاهب تتوه الرؤية ويصبح التخبط والعشوائية هما سمة السياسة.


إن البحث عن صيغة توافق الحد الأدنى مع إيران هو الأفضل بالنسبة للعرب والفلسطينيين، وهذا ممكن إن بقيت إسرائيل جانبا وهي المستفيد الوحيد من الصراع بين العرب وطهران لقلب أولوياته في المنطقة بدل صراع عربي إسرائيلي سيطر على المنطقة لعقود إلى صراع سني شيعي أسوأ من عبر عنه بصراحة كان الوزير الذي اعتبر أن قضية العرب الأولى هي إيران، وأن الصراع مع إسرائيل و القدس هو مسألة هامشية، قد يختلف الكثيرون مع إيران ولكن يجب ألا يسقط أي وطني في خطأ أن يصل حد إنزال علم فلسطين وتسليم السفارة الفلسطينية لإسرائيل هكذا الأمر ببساطة وبوطنية غير ملوثة. 

Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد