لو استعرنا للحظة منطق الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، لقلنا إن فلسطين قوة عظمى، ولو استندنا للحكمة الشعبية لقلنا إن فلسطين في مواجهة الثنائي، إسرائيل/ أميركا، كانت الأسبوع الماضي البعوضة التي أدمت مقلة الأسد، ذلك أن التصويت في مجلس الأمن على مشروع القرار الذي يدين إعلان دونالد ترامب القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، قد جعل الولايات المتحدة ضد كل أعضاء المجلس الآخرين، كما أن التصويت في الجمعية العامة على القرار بذات المضمون قد اظهر سبع دول تمثل أقل من 25 مليون نسمة من أصل أكثر من 7 مليار، هم عدد سكان العالم، تقف فقط مع الثنائي المذكور في عزلته الدولية.  


ورغم أن صدور القرار عن الجمعية العامة وحتى فشل اتخاذ القرار من قبل مجلس الأمن، يعتبر انتصارا سياسيا وأخلاقيا عظيما للشعب الفلسطيني، إلا أن ذلك لا يعني أن المعركة على القدس قد انتهت، بل ربما أن فصلا حقيقيا وصريحا من الصراع قد بدأ، أهم مظهر له، هو أنه لم يعد ممكنا ولا صحيحا الاستمرار في خوض الصراع بشكل خفي، أو متوار، أو وفق ممر أو قناة وحيدة، هي الضغط على الاحتلال الإسرائيلي من خلال المجتمع الدولي ــــ وكانت منه الولايات المتحدة ـــــ الذي يعتبر كل الإجراءات الاحتلالية الإسرائيلية غير شرعية، وكان يمارس مستوى ما من الضغط الذي كان من شأنه مجرد عرقلة البناء الاستيطاني.


منذ دخل ترامب البيت الأبيض، وهو يتبع سياسة مختلفة عن أسلافه، من حيث التصريح علنا، بأنه مع الاستيطان وأنه ضد حل يتم فرضه على إسرائيل، وأنه بذلك ليس ضد الاحتلال، وهذا يعني أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بالمكانة المقبولة كراع للعملية السياسية، على الجانب الفلسطيني، وفي الحقيقة فإن الولايات المتحدة، حتى أيام مدريد لم تكن تتخذ موقفا منحازا للشرعية الدولية، ولا لحق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وهي رعت أوسلو، بعد أن كانت إسرائيل بنفسها هي التي توصلت له مع القيادة الفلسطينية، ومنذ أعلن الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي توصلهما لاتفاق إعلان المبادئ، رفعت واشنطن يدها عن مدريد/ واشنطن لصالح أوسلو. 


حقيقة أخرى لا بد من التذكير بها، وهي أن تحرر الشعوب التي كانت محتلة ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم البطولات التي سطرتها شعوبها على طريق الاستقلال، إلا أنها لم تنتصر، فقط بسبب بطولاتها الخاصة، بل لأن العالم بمعظمه كان مؤيدا لها، ولأن «معسكرا» كان يسمى المعسكر الشيوعي كان يدعمها بالسلاح وبالسياسة وكل الوسائل الممكنة، وأن الولايات المتحدة سبق لها وأن هزمت في أكثر من محطة، كانت خلالها تدعم قوى محلية، كما كان الحال في فيتنام، وتايوان، والآن كوريا الجنوبية، هزمت عسكريا في فيتنام وسقط نظام نغوين فان ثيو في سايغون، الذي كانت تدعمه بعد حرب استمرت عشرين سنة.


الولايات المتحدة تنحاز حاليا لإسرائيل، كما فعلت مع نظام سايغون من قبل، وحيث إن أهمية التصويت في مجلس الأمن أولا وفي الجمعية العمومية ثانيا ضد القرار الذي صدر ويدين الإعلان الأميركي مختلف هذه المرة عن القرارات السابقة، من حيث إنه موجه بشكل صريح ضد الموقف الأميركي وليس ضد الإجراءات الإسرائيلية، فإن الأمر يعني أن أميركا قد دخلت دائرة الصراع في فلسطين، أو أنها أصبحت طرفا فيه، بشكل صريح وواضح.


لقد هزمت أميركا في فيتنام أبان الحرب الباردة، وبعد الحرب الباردة أظهرت الولايات المتحدة عجزها عن مواجهة مجموعات عصابية، تمارس العنف، ولا تتمتع بأي تأييد عالمي يذكر، فقط القضية الوحيدة التي تتمتع بمكانة أخلاقية، بل وباتت تمثل ضمير العالم بأسره اليوم، هي قضية فلسطين، حيث إن كفاح الشعب الفلسطيني، خاصة في حلقة القدس، التي تمثل قوة روحية هائلة لنحو مليار ونصف المليار من مسلمي العالم، إذا ما استمر ببسالة، فإنه قد يغير خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة كله.


العالم الآخر، الذي هو الأغلبية، التي تجد نفسها على الطرف الآخر المقابل لأميركا، يتوثب منذ وقت، ويتحين الفرصة لتعديل طبيعة ذلك النظام غير العادلة، لذا فإن الإجماع الأخلاقي العالمي كما انتصر في جنوب إفريقيا على نظام الفصل العنصري، فإنه سينتصر في فلسطين، على آخر احتلال ينتمي للحرب الباردة، وكما سقط نظام الفصل العنصري، ونظام سايغون العميل، سيسقط الاحتلال الإسرائيلي وستنهزم أميركا في هذا الفصل من الصراع الكوني.


حول فلسطين إذا وفيها ان فتح فصل من الصراع الكوني، الذي لا بد أن يبدأ بالتساؤل حول مغزى استمرار تمتع الدول الخمس العظمى، خاصة بعد أن تغير مفهوم وجوهر العظمة الكونية، بحق النقض/ الفيتو، الذي كان معللا بأن الهدف منه هو الحفاظ على السلم العالمي.


كذلك فإن إصرار واشنطن، على عدم التراجع عن الإعلان، وان تتبعها غواتيمالا بالإعلان عن نقل سفارتها هي الأخرى من تل أبيب للقدس، يعني أن المجتمع الدولي عليه أن يراجع جدوى إصداره القرارات غير الملزمة، والتي تصبح بلا معنى، حيث لا بد من قيادة الدفة العالمية بطرح مشاريع قرارات تعاقب من يخرج عن قرارات الشرعية الدولية. 


أولا وقبل كل شيء، لا بد أن تسارع الدول العربية، ثم منظمة المؤتمر الإسلامي إلى إصدار قرارات تتضمن عقوبات حاسمة ضد أي دولة تقوم بخرق الشرعية الدولية الخاصة بالقدس، من مثل فرض المقاطعة الاقتصادية وحتى الدبلوماسية مها، ويقينا لو أن مثل هذه القرارات كانت اتخذت من قبل الدول العربية والمؤتمر الإسلامي، لما فكرت غواتيمالا في الإعلان عن نيتها نقل سفارتها، لكن العرب والمسلمين كانوا يفكرون في الولايات المتحدة، فقط، وقد تخوفوا من اتخاذ قرارات من هذا القبيل، تفهم على انه يتوجب تنفيذها بحق واشنطن. 


وكما هي فلسطين آخر دولة محتلة في العالم، فإنها في طريقها لأن تكتب الفصل الأخير في كتاب النظام الكوني الذي نشأ على أنقاض الحرب الباردة، واتسم بمظهر المنتصر والمهزوم، وقام على أساس أن القوة تقهر الحق، وأن الجبروت يهزم الأخلاق. 


Rajab22@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد