2014/05/18
لم نكن بحاجة إلى شرطي ملتحٍ ينهال ضرباً على الصحافيين حتى نعرف موقع مهنة الصحافة بالنسبة للنظام السياسي الفلسطيني ككل وحركة حماس بشكل خاص، فلدينا تجربة طويلة ومريرة على امتداد الوطن من ضرب وتكسير كاميرات واعتداء واعتقال لأبناء هذه المهنة التي يفترض أنها تشكل سلطة ورقابة على النظام السياسي ولكنها في الحقيقة كيس الملاكمة التي يركلها الجميع ولكن بقدمه.لم نكن بحاجة إلى أن نسمع غضب الحكومة وسيل الاعتذارات حتى نعرف أن الصورة التي انتشرت بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي والكفيلة في دول العالم بإقالة وزير الداخلية وربما الحكومة، قد أحرجت الحكومة إلى الحد الذي يجعلها تتبرأ من هذا الفعل وتخجل منه وتقدم اعتذارا للصحافيين وتعلن تشكيل لجنة تحقيق وتوقيف المعتدين، هذا كاف، ولكن لأن التجربة في قطاع غزة سجلت اعتداءات سابقة لم تعلن الحكومة عن أية إجراءات بشأنها لأنه لم يتم ضبط قواتها متلبسة بالجريمة، هذه المرة كان للصورة فعل السحر كي تجعل الجميع يتسابق في إدانة المشهد الذي انتشر بسرعة.
ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها الاعتداء على الصحافيين وأظن أن لدى الحكومة ما يكفي من الشكاوى التي لم تفكر حتى بالتدقيق فيها، فالاعتداءات تمت خلسة وكانت قواتها أكثر ذكاءً في المرات السابقة من ذلك الشرطي في نزع الأفلام المحشوة داخل الكاميرات أو حتى بالتفتيش في الهواتف المحمولة التي ربما قد تكون التقطت مشهداً ما، لكن هذه المرة كما يقولون "الفضيحة بجلاجل" ولم تترك للحكومة خيارات إلا الإسراع في التنديد في محاولة منها لامتصاص الفضيحة.
هذا لا يعني أن الحكومة متواطئة أو أعطت تعليمات مباشرة بالاعتداء على الصحافيين، لكن جملة الاعتداءات السابقة التي مرت دون حساب شجعت عناصر الأمن على ممارسة هذا السلوك ضد الصحافة، فلو أن الحكومة أعلنت سابقاً عن فصل رجل أمن واحد أو محاكمة من اعتدى على صحافي لأدرك رجال الأمن أن هذا خط أحمر ولما صدمت الحكومة بهذه الصورة، ولكن صمت السنوات السابقة لا بد وأن يصل إلى هذا المستوى.
هذه هي جريمة الحكومة، التواطؤ بالصمت على تجاوزات سابقة كانت أخطر كثيراً من الصور التي انتشرت في ذكرى النكبة وكنت شاهدا على بعضها وكتبت فيها عن إهانة وضرب صحافيين، والحق أنني كنت أعرف أن هذه الحكومة لن تهتم بالأمر ولن ترسل مندوبا ليسألني عن ذلك، ولن تشكل لجنة تحقيق حتى تطلب شهادتي التي نشرت جزءا منها في مقالات سابقة لأن الأمر لم يتم ضبطه بالصوت والصورة، ولو كانت الحكومة توقفت سابقاً لما وصل رجالها إلى هذا المستوى من ركل الصحافيين.
لن يقبل الصحافيون بأقل من محاكمة وحكم لكل الذين اعتدوا عليهم، وحتى تبرئ الحكومة ساحتها عليها أن تسرع بالمحاكمة وإلا سنستمر نحن الصحافيين بتحميلها المسؤولية، ولن نقبل باعتذار لا يرتبط بإجراءات، لأن هذا الأمر تكرر سابقاً، وإذا ما قامت بمحاكمة الجناة فإنها ستسجل سابقة مهمة في حماية الصحافيين، خصوصاً وأننا على أعتاب حكومة وحدة وطنية وستساعد على تحصين الصحافة أما الحكومات القادمة.
الصحافة مهنة المتاعب، ودائماً هناك صراع بين حكومات تخطئ وصحافة تقف بالمرصاد وبالكلمة وبالصورة وبالتقرير وهذا طبيعي، ومن المعروف أن هناك توازنات للقوى في كل المجتمعات وكل قوة تفرض حضورها واحترامها وهيبتها لا أن تطلب من غيرها التكرم عليها بذلك، فالهيبة ليست مكرمة تعطيها الحكومات للصحافة والتي يفترض أنها ند لأية حكومة، أن تستمر الصحافة في تسول الاحترام وطلب الحماية عاجزة عن فرض هيبتها، فإن المشكلة هنا ليست في الحكومات التنفيذية بل في عاملي تلك المهنة، والحق أن الجسم الصحافي في فلسطين ساهم في استمرار النيل من الصحافيين ولم يضع حداً لتلك الخروقات.
فالجسم الصحافي منقسم وموزع على القوى والأحزاب وبالتحديد الأحزاب الحاكمة، وجزء كبير منها يمارس التزلف تجاه أحزابه التي تفرض قوائم المرشحين وجزء منها لصيق بالأجهزة الأمنية يتآمر على زملائه من الحزب الآخر، وأن معظم قادة هذا التجمع ليسوا شخصيات عامة قادرة على الوقوف في وجه السلطة بل من البسطاء، ووصل الأمر إلى ترشيح موظفين بدرجة رئيس قسم كان كل همه أن يصبح مديراً في الحكومة، فكيف سيقف مدافعاً عن زملائه في وجه الأجهزة الأمنية والحكومة؟؟
إن ما يحدث للصحافيين على امتداد الوطن وآخرها ذلك الشرطي من اعتداء واعتقال لم يعد يحتمل، وتتحمل مسؤوليته نقابة الصحافيين بنفس المستوى الذي تتحمله الحكومة، فهذا ليس أول اعتداء وفي كل مرة كان الأمر يمر دون عقاب ممهداً للاعتداء في غزة أو الاعتقال الذي يليه في الضفة بتواطؤ كبير من معظم الصحافيين، وبذلك فقد أُكل كل واحد منهم يوم أكل الصحافي الأسود.
ذات مرة وفي إحدى مقابلاته حين كان شمعون بيرس رئيس وزراء إسرائيل بعد اغتيال اسحق رابين عام 1995 عندما سئل عن الشخصية التي يخافها رئيس الوزراء أجاب "إيلانا دايان" وهي صحافية إسرائيلية تجري مقابلات في القناة الثانية في التليفزيون الإسرائيلي، وقد شاهدتها في عدة مقابلات مع مسؤولين إسرائيليين كانت بالنسبة لهم عبارة عن محقق يقوم باستجوابهم لاستخراج المعلومات وبعضهم يتصبب عرقاً في المقابلة.
أما الصحافية التي أرسلت نتنياهو للقضاء في فضيحة "نتنياهو بار أون" في ولايته الأولى هي "إيلانا حسون" من تحقيق صحافي لاحقت فيه خيوط القضية كما محققي الروايات البوليسية، وتمكنت من تسليم رئيس الوزراء للقضاء العام، وفي سؤالنا المنطقي: هل سمعتم عن مسؤول يخاف من صحافي في فلسطين ؟وعندما يحدث ذلك حينها يمكن القول أنه سيتم احترام الصحافيين وسنتحدث عن هيبة الصحافة، أما استمرار استجداء الحماية والرحمة كأن الصحافيين مجموعة من المساكين فإن الأمر يبدو مقلوباً.
وحين تغيب صحافة التحقيق والاستقصاء وحين تعجز الصحافة عن ملاحقة الفساد، وحين تعجز عن الإطاحة بوزير أو قائد جهاز أمن، وحين تمر كل ممارسات الأمن ضدها دون حساب وحين لم تتمكن من الضغط لمحاكمة أحد المعتدين عليها فإن لدى الصحافيين فهماً خاطئاً لمهنتهم وعليهم مراجعة أنفسهم والكف عن التعاطي مع أنفسهم كباعة خضار.
في يوم الصحافة العالمي الماضي كنت ضيفاً على تلفزيون فلسطين وبحضور الزميل عبد الناصر النجار نقيب الصحافيين، سألني الصحافي القدير إبراهيم ملحم عن سر عدم خشيتي عندما أكتب بجرأة ضد النظام السياسي القائم في غزة أجبت "لأن رئيس الوزراء هو الذي يجب أن يخاف مما أكتب وليس أنا الذي ينبغي أن يخاف، فالصحافة من يستطيع الإطاحة بموقعه وهو لا يستطيع الإطاحة بقلمي" فلو أدرك الصحافيون ذلك سيتوقفون عن تسول الحماية وسيخافهم الأمن لا العكس.
Atallah.akram@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية