الممكن اليوم قد يغدو مستحيلاً غداً، والمستحيل اليوم قد يصبح ممكناً بعد غد.
المهم أن هذا «اللبس» ليس مصدره التجريد الذهني وإنما التباس الواقع نفسه.
فما هي معالم هذا الالتباس؟
في المقام الأوّل ما زالت هناك فجوة كبيرة بين الرغبة والإرادة بالذهاب إلى إنهاء حقيقي للانقسام.
وواقع الحال يقول إن الرغبة نفسها ليست شاملة ولكنها تشمل أكثرية، والإرادة ليست شاملة وهي لا تتوفر إلاّ لدى أقلية، في حين إن الأكثرية ما زالت تفتقد لهذه الإرادة.
الشعور بالخطر هو الذي وفّر عنصر أكثرية الرغبة، وانعدام الثقة هو العنصر الذي يقف حجر عثرة في طريق أكثرية الإرادة. والشعور بالخطر نفسه لا يتعلق بالخطر الذي تمثله إسرائيل على المشروع الوطني وإنما الخطر الذي يمثله الجمهور الفلسطيني على مكانة التنظيمات، والأقلية فقط هي التي تشعر بالخطر الأول أولاً، والثاني ثانياً، في حين أن أغلبية لا بأس بها مشدودة أساساً للخطر الثاني.
اذا كان الأمر كذلك وأغلب الظن أنه كذلك فعلاً، فليس أمامنا إلاّ الحديث مباشرة وبكل صراحة عن الكيفيات التي من خلالها يمكن التعامل مع هذه الفجوة، بما يساهم في ردمها تدريجياً إذا تعذّر ردمها أو الجزء الأكبر منها في غضون فترة وجيزة قادمة.
ومع كامل الاحترام لكل المبادرات التي تحرص على وضع مخططات واسعة وتفصيلية لما يجب عليه معالجته أو ما يجب أن تكون عليه الأمور ـ وكما رأينا مئات من المبادرات المماثلة، إلاّ أن المقصود ليس هذه الأمور على أهميتها الكبيرة، وإنما المقصود هو التوقف عند واقع الفجوة نفسها.
والحقيقة أن معالجة واقع هذه الفجوة هو المدخل المباشر والوحيد ـ كما أرى ـ للولوج بعدها وليس قبلها إلى كافة ما ورد في المخططات التي أشرنا إليها.
بالنسبة للخطر الإسرائيلي فإن إدراكه والتعامل مع ما يمثله من تهديد للمشروع الوطني وربما الوجود الوطني نفسه يحتاج إلى التوافق الوطني على الحقائق والمعطيات التالية:
1ـ لا يوجد في المدى المنظور أية إمكانية للذهاب إلى حل سياسي، لا من زاوية من يحكم إسرائيل ولا من زاوية من سيحكمها في حالة إن جرت انتخابات جديدة، كما لا يوجد أية إمكانية لأن يتغير الموقف الأميركي باتجاه أن يضغط على إسرائيل، وكل ما هو ممكن هو أن يكون الضغط كله موجهاً ضدنا.
وأما من الزاوية العربية وما يمكن أن ينتج من ضغوط عربية على إسرائيل فهي منعدمة، وأغلب الظن أنها ستكون ضغوطاً علينا وليس على الولايات المتحدة وإسرائيل، وحتى لو لم تكن هناك ضغوط عربية علينا فمن المؤكد أن العالم العربي لا يمكنه ممارسة ضغوط حقيقية على الولايات المتحدة، إذ لا مجال لأية تسوية أو حلول سياسية في المدى المنظور إطلاقاً.
2ـ حتى لو كان الأمر مختلفاً عن هذا التحليل، وحتى لو أن ترامب أراد الذهاب باتجاه حل، وحتى لو تغيرت الخارطة السياسية في إسرائيل كثيراً أو قليلاً فإن «الحل» المطروح هو حل مرفوض بالكامل، جملةً وتفصيلاً، لأنه لا يتعدى الرؤى الإسرائيلية، وهو يتناقض بالكامل مع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ولهذا كله فإن كل ما يقال أو يشاع أو يروّج حول (التنازلات الفلسطينية) هو مجرد أوهام تعكس قصوراً كبيراً في رؤية أصحاب هذه الأوهام.
ليس هناك أية إمكانية للقبول بالحلول المطروحة، وليس هناك من حلول مطروحة، وليس هناك من إمكانية لأن تجد لها طريقاً إن طرحت.
3ـ لم ينضج الوضع الدولي لإرغام إسرائيل على التراجع تحت طائلة العقوبات والتي بدونها لن تتراجع.
إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي ترى في القوة كل الحلول وبدون أن تشعر بالقوة الضاغطة عليها لن تتراجع.
أما الضغوط التي يمكن أن نمارسها نحن على إسرائيل فهي كبيرة وهائلة ولكنها دون أن تكون سلمية ومتوافقة مع القانون الدولي الفعلي (وليس النظري) فإنها ستفقد كل إمكانية على الفعالية.
وفي ضوء ذلك فإن الاستراتيجية الفلسطينية المطلوبة هي الصمود، المقاومة الشعبية والتمسك بالثوابت الوطنية القائمة على البرنامج الوطني، ولا مجال للاختلاف على هذه الركائز إذا كانت المنظمات الفلسطينية تريد أن تنهي الانقسام.
أما فيما يتعلق بالخوف على مكانة المنظمات الفلسطينية من الجمهور وعلى مكانتها في صفوف هذا الجمهور فهذا هو مربط الفرس.
هذه هي نقطة القوة التي لم يتم استثمارها حتى الآن.
منطلقات المصالحة ليس المصلحة الوطنية العليا دائماً وإنما الحفاظ على الذات.
إذن المطلوب أن يعي الجمهور نقطة قوته، وأن يبدأ بالضغط على «مكانة» التنظيمات لأن هذه هي اللغة الوحيدة القادرة (على إرغام الجميع على المصالحة) وليس لإقناع الجميع فقط.
لا توجد ثقة ولا توجد حسابات وطنية خالصة، توجد حسابات مصالح وخوف على المكانة.
وما دام الأمر كذلك فإن المصالحة حتى وإن تمت فإنها يمكن أن تتعثر في أي وقت إذا لم تتم على حسابات المصالح، بحيث تأخذ التنظيمات مكانتها ودورها وحصصها ومكتسباتها.
نعم وبكل وضوح علينا أن نعطي لكل فصيل ما يستحقه وأن نحقق له أعلى درجات المكاسب وحينها فقط سيكون هناك ثقة، وسيكون هناك حرص على المصالحة، بل وسيكون هناك استماتة في الدفاع عن المصالحة. والسبب بسيط هو أن الجمهور ليس منقسماً أصلاً وإنما الفصائل هي المنقسمة.
ما يبدو مستحيلاً يمكن أن يتحقق غداً، وما يبدو ممكناً الآن ربما يتحول إلى مستحيل في المستقبل. الفرص الآن مواتية قبل أن يتحول الجمهور إلى قوة ضغط، وقبل أن تضيع فرصة المحافظة على المكانة وعلى المصالح.
لا يوجد أي عيب في الحديث عن لغة المصالح، العيب الحقيقي هو الحديث عن الشعارات الكبيرة، التي تحاول إخفاء المصالح، التي هي الهدف وهي الوسيلة وهي اللغة الصحيحة التي لا تخطئ الحسابات.
بلغة الحسابات والمصالح، المصالحة ممكنة ومن دونها مستحيلة، وبلغة المصالح، الرغبة يمكن أن تتحول إلى إرادة، أما بدونها فإن هذه الإرادة حتى وإن توفرت فهي لا تتوفر إلاّ عند فئة قليلة، وأغلب الظن أنها ليست مؤثرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية