لم يكن من المتوقع أن تسير المصالحة بلا أزمات أو مشاكل، وكان يجب أن يبدو ظهور هذه المشاكل أمراً طبيعياً في مرحلة حرجة استفاد فيها من استفاد وخسر فيها من خسر، وتموقع فيها الكثيرون في مواقع وأزاحت سنونها أجيالاً كاملة.
والمصالحة التي تريد أن تبحر رغم الأمواج المتلاطمة والعفن الذي تركته سنوات الانقسام الطويلة نسبياً، لا بد من أن تقف في مرات حائرة أمام كم التحديات التي تعترض طريقها، والتوقف هنا لا بد من أن يكون من أجل إيجاد الحلول الخلاقة التي تجعل من الانتقال من واقع سيئ إلى واقع جيد أمراً محتماً. وعليه فإن النعي المبكر للمشاريع الكبيرة ليس إلا مراهقة على مستوى الوعي.
و المصالحة الفلسطينية التي ولدت عسيرة وبعد عمليات قيصرية موجعة لن تخلو من الألم. ثمة من يتألم لأن عليه أن يرى مواقعه تتراجع، وهناك من يتألم لأنه يشعر بأنه يخسر بعضاً من نفوذه، وغيره يتألم لأنه كان يرغب بأفضل من ذلك، أو يتألم لأنه كان يرى المصالحة بصورة مختلفة أو يتخيلها غير ذلك. كما أن هناك من يتألم لأنه تكيف مع الانقسام وبنى حياته على وجوده وبات بينهما منافع متبادلة وحياة مشتركة، ليس بالمعنى المجازي بل بالمعني المادي. لكن الألم الحقيقي يكون حين يدفع كل طرف من "كومه" الخاص إلى "الكوم" العام وحين يتمكن الجميع من أن يرى بنظارة واحدة الهدف ذاته. وعليه فإن ثمة حاجة لإعادة تعريف المصالح المشتركة ضمن النطاق الموحد وليس ضمن القواميس المختلفة التي قد يُطبع بعضها في العواصم الإقليمية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يجب أن يتأسس على فهم ثابت لغايات المصلحة المشتركة الساعية إلى الخير العام، وليس إلى الخير الحزبي. وآفة الاقتتال الداخلي إنما تنمو وتكبر حين تتورم المصالح الحزبية وتنتفخ الذات الفصائلية على حساب الرؤية الشاملة، حين يصبح الفرد أهم من الجماعة، والحزب أكبر من الوطن، والمكاسب الخاصة على حساب المكسب الوطني وحين يتم التضحية بالكثير من أجل القليل الذي قد يعتقد الجميع أنه كثير. الكثرة التي تزول أمام أول نسمة ريح خفيفة.
يبدو هذا الكلام ضرورياً حين نتأمل الأزمات الخفيفة التي اعترضت طريق المصالحة في الأسبوعين الماضيين خلال محاولة حكومة الوفاق أن "تتمكن" في غزة . وقد تبدو كلمة "التمكين" مخادعة فهي حمالة أوجه ويمكن لها أن تعني أشياء كثيرة في سياقات مختلفة. والأساس ليس ما يعنيه كل طرف، بل ما تعنيه المصلحة العامة. وتمكين الحكومة لا يمكن أن يعني قدوم الوزراء إلى غزة وتبادل التحيات والسلامات وصور السيلفي مع موظفي الجهاز الوظيفي في غزة، ولا تعني بكل تأكيد الترحيب والحميمة التي يمكن لهؤلاء الموظفين أن يقابلوا بها وزراءهم الافتراضيين. وهي لا تعني مكاتب ومقرات ومجاملات، بقدر إشارتها الحقيقية لسيادة الحكومة على القطاع ومقدرة أجهزتها المختلفة على ممارسة دورها المحدد. وسيادة الحكومة تعني هذا التكامل العام والشامل بين أجهزة الدولة (وليست الحكومة إلا واحدة من تلك الأجهزة)، وهذا التكامل يشير إلى وحدانية القرار أو الزعم به.
من المؤكد أن مراجعة الفترة الماضية من عمر المصالحة تشير إلى اضطرابات في هذا الفهم، أو كأن ثمة فهماً مختلفاً من الأطراف كافة لكل ذلك. فلا مؤسسة بلا أكثر من رأس، ولا يقصد بالرأس أيضاً زعيم أوحد، فكل مؤسسة تعمل وفق التفويض الممنوح لها وفق القانون الناظم لعملها، وعليه فإن أي ازدواج في المسؤولية وتقاسم في الوظيفة يقود إلى اضطراب إداري ومؤسساتي.
لم يكن ثمة حاجة للخلافات البسيطة التي ظهرت في بعض المؤسسات خاصة سلطة الأراضي ووزارة البيئة. وبصراحة كان يسعدني كمواطن لو أن السجال الذي دار والذي وجد آذاناً مرحبة في وسائل الإعلام تم حول سبل تنقية بحر غزة ومنع المزيد من التدهور في حالة التلوث الخطرة التي كنا على هذه الصفحة قد تحدثنا عنه. وبصراحة لأول مرة أسمع أن ثمة وزارة بيئة في غزة طوال كل تلك السنوات، لأنه كان يجب السماع بها حين لم أتمكن أنا وأطفالي وعائلتي طوال الصيف الماضي من السباحة في البحر. عموماً أيضاً لا يبدو هذا اللوم مهماً الآن، لكنه يبدو مهماً حتى نتذكر أن استعادة الماضي لا تجلب إلا المزيد من الألم.
كما أن التوقعات الكبيرة والسريعة لا تعكس إلا لهفة المواطن للخير الذي كان ينتظره طوال تلك السنوات العجاف، لكن وعلى نفس المستوى فإن ثمة خوفاً من أن عدم تحقيق كل ذلك قد يجلب له المزيد من الخيبات التي لم يتم تطعيمه ضدها. وكما قال صديقي الصحافي والكاتب هشام سقا الله فإن المصالحة بالنسبة للناس مثل "الدحية" حيث يكون الكل مسروراً ومنتشياً لكن لا أحد يفهم ما يقوله المغني. وإذا كانت المتعة هي الأساس في الفرح، فإن الفهم أساس بعد ذلك. وإذا لم يفهم أحد ما يجري فإن أحداً لن يتمتع حتى النهاية. فلا أحد يملك العصا السحرية التي تجعل تحقيق الأماني ممكناً بين ليلة وضحاها، كما أن التخلص من آلام الماضي وتوترات الانقسام لن تتم بمجرد توقيع ممثلي التنظيمين الكبيرين على اتفاق. وإذا كان الله، العلي القدير، لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإن البداية لا تكون إلا بالنوايا الحقيقية. والنوايا الحقيقية وحدها توفر لنا المناخات والشروط الواجبة من أجل إنجاح المستقبل. وضرورة كل هذا لأن ثمة الكثير من العقبات من الخارج ومن القوى الفاعلة الهادفة إلى هدم الصرح المتواضع للمصالحة التي يجب أن تتحول إلى وحدة وطنية حتى تنتقل من صلحة بين عائلتين إلى مشروع وطني أكبر وأكثر شمولية يليق بالشهداء وبمن ينتظر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية