جاء الخطاب الشامل وشديد الأهمية الذى وجهه الرئيس عبد الفتاح السيسى للشعب الفلسطينى يوم الثالث من أكتوبر الحالى، وكذا الزيارة الهامة التى قام بها رئيس المخابرات العامة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة فى نفس اليوم تتويجاً وتأكيداً على مدى أهمية الدور المصرى الحيوى الذى لا غنى عنه ليس فقط فيما يتعلق بالمصالحة وإنما أيضاً بكل ما يرتبط بالقضية الفلسطينية وكافة مكوناتها .
لن أكون مبالغاً إذا ما أعلنت من هذا المقام أن مصر تعتبر الدولة الوحيدة فى العالم القادرة على تحقيق المصالحة الفلسطينية / الفلسطينية، وليس أدل على ذلك من أن التحركات والنتائج الإيجابية التى تحققت فى مجال المصالحة منذ عام ٢٠٠٧ وحتى الآن تمت بجهد وتحرك مصرى واع وفعال , ولذلك أجدنى أؤكد مراراً أن مصر لم ولن تبحث عن دور فى قضايا أمنها القومى، بل إن الدور هو الذى يبحث عن مصر ليزداد قوة وثقلاً وتأثيراً .
يهدف هذا المقال المواكب للاجتماعات الهامة التى تعقد فى القاهرة بين قيادات حركتى فتح و حماس برعاية ومشاركة مصرية إلى الإجابة على بعض التساؤلات التى تدور فى أروقة كافة المتابعين لهذا الملف شديد التعقيد حول أهمية المصالحة والعقبات التى تواجهها وما مصير الاتفاقات السابقة الموقعة بين الأطراف ومدى جديتهم فى السير فى جهود المصالحة حتى النهاية، وما هى فرص نجاح هذه الجهود, ومن المؤكد أن إجاباتى على هذه الأسئلة سوف تستند إلى رؤى تحليلية ارتباطا بالمواقف المعلنة لكافة الأطراف, ولعل هذا الاجتهاد قد يساعد على مزيد من تفهم مصير هذه المصالحة .
بداية لا يمكن النظر إلى تعبير ترتيب البيت الفلسطينى على أنه مجرد صياغة عامة نستخدمها عند الضرورة، وإنما هو مسألة معقدة تتطلب جهداً كبيراً يهدف إلى توحيد الرؤى قدر المستطاع أو التقريب بينها إلى حد كبير؛ حتى يكون الموقف الفلسطينى على المستويين الداخلى والخارجى مؤثراً ومتوائماً مع نفسه، وبالتالى يكون قادراً على التعامل مع المجتمع الدولى بصفة عامة ومواجهة الموقف الإسرائيلى الرافض لمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة بصفة خاصة, ومن المؤكد أنه بدون ترتيب البيت الفلسطينى بهذا الشكل لا يمكن لأى جهد فلسطينى أو عربى أن ينجح من أجل دفع هذه القضية المحورية للأمام .
وحتى يكون الأمر أكثر وضوحاً فإنى أرى أن القضايا التى سوف يبحثها المجتمعون فى القاهرة هى بالقطع قضايا متعددة قد تحتاج إلى العديد من الجولات حتى يتم التوافق عليها وعلى آلية تنفيذها تماماً, ويمكن تقسيمها إلى قسمين على النحو التالى :
القسم الأول ويتمثل فى فتح ملف كيفية تنفيذ القضايا الخمس التى تم بحثها ومعالجتها فى الاتفاق الشامل الموقع فى القاهرة فى الرابع من مايو ٢٠١١ والذى وضع حلولاً لهذه المشكلات الرئيسية الخمس (منظمة التحرير الفلسطينية ومعايير انضمام حماس والجهاد الإسلامى وتنظيمات أخرى إليها – الأمن وإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتكون أجهزة وطنية محترفة – عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطنى – المصالحة المجتمعية لمعالجة الآثار الاجتماعية للانقسام – تشكيل الحكومة، وقد تم استكمال حل هذه القضية باتفاق الشاطئ الموقع فى غزة فى إبريل ٢٠١٤ والقبول بتشكيل حكومة وفاق وطنى برئاسة الدكتور رامى الحمد الله ) .
أما القسم الثانى فيتمثل فيما استجد من مشكلات ليست هينة فى ظل طول فترة الانقسام، ويأتى على رأسها قضية توحيد السلاح أو ما يطلق عليه سلاح المقاومة, ومدى إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية أو الإبقاء على الحكومة الحالية مع تمكينها من أداء مهامها, وكذا قضية الموظفين وكيفية اندماجهم فى مؤسسات السلطة, وبعض المشاكل الأخرى المرتبطة بالكهرباء والرواتب .
ولاشك أننا فى هذا المجال لا يمكن أن نضع حلولاً لهذه المشكلات حيث إن المجتمعين فى القاهرة ومعهم المسئولون المصريون المحترفون والمتابعون لهذا الملف هم الأقدر على إنجاز هذا العمل, ولكن من الضرورى أن أشير إلى أن هناك ستة مبادئ وأسس يجب أن تكون محل اهتمام وتركيز ووعى من جانب الأطراف وذلك كما يلى :
أن إعادة ترتيب البيت الفلسطينى لم يعد مجرد خيار يسمح لنا بأن نختاره من بين عدة بدائل بل أصبح ضرورة حتمية فى الوقت الراهن, ومن هذا المقام لابد أن أحذر من أننا قد لا نجد فرصة أخرى مواتية لتحقيق هذا الهدف إذا ما ضاعت الفرصة الحالية .
أن ترتيب البيت الفلسطينى يعتبر الخطوة الأساسية للحصول على حقوقنا المشروعة وإقامة الدولة الفلسطينية من خلال المفاوضات والتسوية السياسية مادمنا حريصين على تحقيق حلم الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة وإنهاء الذرائع التى يستند عليها ناتانياهو للتهرب من استحقاقات السلام .
أن الضفة الغربية وقطاع غزة لازالتا أرضاً محتلة، وبالتالى لا نملك ترف استمرار الانقسام أو البحث عن غنائم ومكاسب ومزايا وهمية فى ظل احتلال إسرائيلى سافر يعلن بكل وضوح أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة .
أن المصلحة الفلسطينية العليا هى الأبقى والأسمى والتى يجب أن تتنافس الفصائل والتنظيمات بشأنها، أما المصالح الحزبية الضيقة فأعتقد أنها يجب أن تنتهى بدون رجعة مادمنا اعتزمنا إنجاز مصالحة حقيقية .
أن كافة المشكلات المثارة أمام المجتمعين فى القاهرة أياً كانت نوعيتها هى مشكلات قابلة للحل, كما أن الاتفاقات الموقعة فى فترة سابقة كلها أيضاً قابلة للتنفيذ على الأرض ولا تتطلب سوى مرونة وثقة متبادلة وشفافية والنظر إلى هدف واحد فقط وهو مصلحة الشعب الفلسطينى كله كوحدة واحدة حتى وإن تعددت الاتجاهات السياسية التى تعتبر حقاً مشروعاً مادامت لا تتعارض مع مصلحة وأمن واستقرار الوطن .
ضرورة الاعتماد بقوة وصدق على الشريك المصرى ( وليس الوسيط المصرى ) والتعامل بإيجابية مع الحلول الوسط التى يطرحها عند الضرورة انطلاقا من عدم وجود أية مصلحة مصرية للانحياز لأى طرف سوى لمصلحة الشعب الفلسطينى، بالإضافة إلى ضرورة أن يكون لدى القيادات وكافة التنظيمات الفلسطينية الثقة المتناهية فى كفاءة قيادة وطاقم عمل رجال المخابرات العامة المتفانين والمتابعين بدقة كافة تفصيلات هذا الملف .
ومن واجبى أن أذكر المجتمعين فى القاهرة بأن هناك ما يسمى بوثيقة الأسرى للوفاق الوطنى الموقعة فى مايو ٢٠٠٦ من جانب قيادات الأسرى من فتح وحماس والجهاد الإسلامى والجبهتين الشعبية والديمقراطية والمكونة من ١٨ فقرة وتناولت قضايا هامة للغاية لا تزال حاضرة حتى الآن, وأنا هنا لا أطالب بتطبيق هذه الوثيقة حرفياً خاصة مع تحفظ البعض عليها وإنما أطالب بالنظر فى الرؤى التى تعاملت بها مع هذه القضايا ولاسيما قضيتى المقاومة والمفاوضات السياسية حيث نصت فى بعض فقراتها على المبادئ التالية :
حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس على جميع أراضى ١٩٦٧ .
حق الشعب الفلسطينى فى المقاومة والتمسك بخيار المقاومة بمختلف الوسائل وتركيز المقاومة فى أراضى ٦٧ إلى جانب العمل السياسى والتفاوض الدبلوماسى والاستمرار فى المقاومة الشعبية الجماهيرية وتوسيع مشاركة كافة القطاعات فى هذه المقاومة الشعبية .
وضع خطة سياسية للتحرك السياسى الشامل وتوحيد الخطاب السياسى الفلسطينى على أساس برنامج الإجماع الوطنى الفلسطينى والشرعية العربية والدولية تمثلها منظمة التحرير .
أن إدارة المفاوضات هى من صلاحية منظمة التحرير ورئيس السلطة على أساس التمسك بالأهداف الوطنية .
ضرورة تطوير المؤسسة الأمنية على أساس عصرى وإنهاء المظاهر المسلحة ومصادرة سلاح الفوضى .
ومن ناحية أخرى فمن المؤكد أن تحقيق المصالحة سوف تكون خطوة هامة للغاية تعود بإيجابيات متعددة على جميع الأطراف وذلك كما يلى :
أولاً : مصر
التأكيد على أن مصر تعد الشريك الرئيسى فى كل تطورات القضية الفلسطينية داخلياً وخارجياً وفى الماضى والحاضر والمستقبل حيث إنها تمتلك كافة مقومات التحرك والتأثير التى لا تتوافر للأطراف الأخرى .
تمهيد المجال أمام تحرك مصرى جديد إقليمياً ودولياً خلال المرحلة المقبلة فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية وبدء مرحلة جديدة أكثر فعالية فى عملية السلام .
تأمين الحدود المصرية مع قطاع غزة بشكل أكثر من ذى قبل فى ضوء العودة المتوقعة لقوات الأمن والشرطة الفلسطينية إلى القطاع إضافة لما قامت به حركة حماس من إجراءات إيجابية فى مجال تمهيد المنطقة العازلة على الحدود مع مصر واعتقال بعض العناصر الإرهابية .
ثانياً : السلطة الفلسطينية
دعم موقف الرئيس أبو مازن على المستوى الداخلى فى ظل ما سيتم من إنهاء الانقسام فى عهده الذى استمر لمدة أكثر من عشر سنوات .
توحيد الموقف السياسى الفلسطينى ليكون أكثر قوة وتماسكاً فى مواجهة إسرائيل وفى ضوء ما هو متوقع من مزيد من دعم عربى ودولى لهذا الموقف عند استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية .
ثالثاً : قطاع غزة
عودة الأمور إلى طبيعتها فى القطاع بصورة تدريجية وإحداث نوع من التنمية اقتصادية على مراحل وحل المشكلات الاجتماعية التى نجمت عن الانقسام .
تمهيد المجال أمام فتح معبر رفح بشكل دائم فى حالة حل مشكلة المعابر وتولى السلطة الفلسطينية مسئوليتها بصورة كاملة .
إمكانية دفع المجتمع الدولى والدول المانحة لتنفيذ كافة تعهداته المادية السابقة لإعادة أعمار القطاع ( حوالى عشرة مليارات دولار ) وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه فى مؤتمرى شرم الشيخ عام ٢٠٠٩ والقاهرة عام ٢٠١٤.
وقف التدخلات الخارجية لتأجيج الصراع فى قطاع غزة استغلالا لوضعية الانقسام ولاسيما من جانب بعض الدول التى صنفها المجتمع الدولى بأنها داعمة للإرهاب ( قطر) .
رابعاً : حركة حماس والتنظيمات الأخرى
تخلى حركة حماس عن سيطرتها على القطاع من خلال حلها اللجنة الإدارية وإتاحتها المجال أمام الحكومة الفلسطينية الحالية؛ لتمارس مهامها كاملة وفى كافة شئون ومجالات الحياة هناك، وهو الأمر الذى يشير إلى أن حماس حريصة بأن تؤكد للجميع أنها تنظيم فلسطينى ليس له أية انتماءات خارجية يلتزم بالمصلحة الوطنية العليا له كافة الحقوق وعليه كافة الالتزامات .
إنهاء كافة المشكلات التى كانت حماس طرفاً فيها داخل المنظومة الفلسطينية لأسباب مختلفة .
حل المشكلات الأمنية بين حركة حماس ومصر فى ضوء تصاعد الإرهاب فى سيناء خلال الفترة السابقة، وما وضح من استخدام الإرهابيين الأنفاق والقطاع فى عملياتهم الإرهابية .
مشاركة كافة التنظيمات والفصائل الفلسطينية فى القرار الفلسطينى وإثبات مدى قدرتها على دعم المصلحة الفلسطينية وليست الحزبية .
وفى ضوء ما سبق فلاشك أننا عبرنا المرحلة الصعبة التى نجحت مصر خلالها فى جمع الأطراف على مائدة واحدة؛ لندخل فى المرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد نحو إنجاز المصالحة الحقيقية، وهى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه فى وثيقة القاهرة عام ٢٠١١ وحل متفق عليه للمشاكل التى استجدت, وليس أمامنا جميعاً سوى أن ننجز هذه المصالحة فى أقرب وقت ممكن من خلال إثبات كل من قيادات حركتى فتح وحماس خلال اجتماعاتها الحالية فى القاهرة أنها لن تنظر سوى للمصالحة الحقيقية وليس للمصلحة الحزبية, ولا أملك هنا سوى أن أكون متفائلاً فى ضوء التصريحات المسئولة والإيجابية الصادرة عن قيادات الحركتين .
وإذا كانت إسرائيل قد أبدت اعتراضها على جهود المصالحة من خلال التصريحات المتشددة التى أطلقها ناتانياهو مؤخراً؛ فإن هذا الأمر يجب أن يكون دافعاً وحافزاً لإنجاح اجتماعات القاهرة والرد عليه بتحقيق المصالحة, كما أن المجتمع الدولى كله يراقب عن كثب هذه الاجتماعات ولابد أن تكون رسالتنا الموجهة له رسالة موحدة وهى أن البيت الفلسطينى تم إعادة ترتيبه وأن الخطوة القادمة سوف تكون فى المستقبل القريب فى اتجاه التحرك نحو عملية سلام حقيقية يخوضها الفلسطينيون والعرب بقوة وصلابة تؤدى فى النهاية إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية