قديمة ومعتقة تلك الضحكات وهمسات الصبا في المدينة النائمة تحت أيكة الدهر، تلك المدينة التي لا تأبه بسحابات الشتاء ورائحة ترابها بعد أول قطرة غيث فاقت عطور خبيزتها، وقد استعارت من الطيف ألوانه، هي كالستارة المرخاة على أكتاف الزمن، هي ضربة عكاز عجوز رسمت على دربها العتيق هدياً لليافعين، هي ضجيج الحرية، هي الحب والحرب، هي الدمار والعمار، هي الصباح والمساء هي كرنفال الأرض هي تلك السيمفونية التي تعزف ألحانها على أصوات القصف والدمار، هي عبق التاريخ وريحانة الزمان.
لا توصف بجمالها المنقوش على وجناته أشجار الزيتون والبرتقال، وعلى جنبات شوارعها رصت بيوتها في الأرض تضرب جذورها لا يقتلعها ريح ولا تحرقها نار، هي العنقاء من بين الركام تنهض شامخة عزيزةً كريمة.
تلك العجوز الكبيرة تقف على ناصية سوقها الكبير يوم الجمعة وبحوزتها ما أنجبته محاصيلها، تنادي هنا الخير هنا الأرض هنا باقون ما بقينا، ضفاف وجهها خريطة المدينة أزقتها تجاعيدها وجبينها كالشمس التي أحرقت أطراف حلمها الصغير.
بين أزقتها القديمة كنيسة "برفيريوس" لا يفصلها عن مسجد كاتب ولاية سوى حائط تنبت بين أحجاره ورود المحبة والأخوة منذ مئات السنين، عوامل الزمن لم تسقط الحائط ولم تقبل ضم إحداهما للآخر؛ فعلى أحجاره أثار الدماء مختلطة لا تفرق بين مسلم ومسيحي.
لا ترى عيناك فيها إلا صمودها على نفسها؛ فذلك العجوز التسعيني المتكئ على عكازه الخشبي، يروي لك رحلة عشق ليس لها آخر حتى إنها أطول من سنوات العمر، عشق الأرض بحجرها وشجرها وبشرها؛ فهي عنيدة عصية لا تسدل ستار الليل مهزومة، هي حرة كالفرس الأصيل، ربما يكون ذلك سبب صمودها الأسطوري.
لا تحتاج بها لهوية أو إثبات شخصية، يكفي أن تبتسم في وجه أهلها وسيغمرونك فرحاً وحباً، إنها أيقونة الأرض ومهد الشمس وأرض السلام إنها " غزة هاشم".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية