لا يمكن للفلسطيني أن يتجرد من مشاعره وهو يتحدث عن فلسطين، كما لا يمكن للأدب أن يتحلل من سياقاته المحلية خاصة حين تكون هذه السياقات معجونة بمعاناة الفرد وألم الجماعة، وعليه يبدو المكان آخذاً وساحراً للكاتب حين يقرر أن يقفز في ماء الكتابة كأنه يفعل هذا للوهلة الأولى في كل مرة. 
والفلسطيني حين يتحدث عن المكان يحمل معه كل تبعات الماضي وآلام الحاضر وغيمات المستقبل، إنه يعيد صياغة الأسئلة الكثيرة التي جالت في خاطره طوال عمره: عن أن تحيا في هذا المكان، أن تكون جزءاً من حكاية كبيرة.
وأن تكون جزءاً من حكاية كبيرة فأنت في أي لحظة معرض لأن تكون لحظة الوهج في هذه الحكاية، وقد تصبح مجرد تطريز آخر في ثوبها المليء بالتطاريز والغرز. 
والمكان الفلسطيني بما يحمله من مشاعر ليس ملهماً فقط، كما أنه لا يبعث اللواعج والأحزان والأشجان، لكنه أيضاً يختزلها. 
ففي كل تفصيل من تفاصيله يمكن لك أن تشتم الألم، أو تسمع صوت الحزن واهناً في الأوصال. 
وعليه فإن العيش في المكان لا يعني فقط العيش في الحكاية، على أن هذا أساس ومهم، لكنه أيضاً يعني أن تكون جزءاً من هذا الألم. 
لا تحس به فقط، ولا تشتم رائحته فقط، لكنك تعيشه. المعايشة التي تجعل كل شيء فردي أساس جماعية الجماعة وجوهر تفاعلها مع نفسها.
خواطر كثيرة مثل تلك مرت بي وأنا أتجول في مدينة حيفا خلال مشاركتي في فعالية ثقافية نظمها مركز حيفا الثقافي في نهاية الأسبوع الماضي. 
المدينة الساحلية التي مازالت تقاتل من أجل الحفاظ على هويتها. 
الهوية التي يمكن أن تستدل عليها من كل شيء حولك. ليس أن البحر هو نفس البحر الذي تتدافع أمواجه على شاطئ يافا و غزة جنوباً، وعكا ورأس الناقورة شمالاً، وليس أن كل شيء في حيفا يدل على "حيفاويتها"، وليس أن المكان مأسور ومخمور بنفسه، وليس أن الشوارع وعتبات البيوت ونوافذها والشرفات، والأشجار، والأحياء، وما تبقى من المساجد والكنائس كله يشير إلى أن هذه حيفا التي تعرفها رغم أنها قد تكون هذه زيارتك الأولى للمكان. 
الفلسطيني أينما حل في فلسطين يمكن له أن يشعر بهذا القرب من المكان. 
الشعور المؤلم في مرات، لكنه الباعث على الحنين الذي يستدعي السعادة المؤقتة من خلف أسوار الكآبة. فكل مكان في فلسطين يحمل معه للفلسطيني دفقة شعور وحب لا يمكن أن يخطئهما قلبه، ولا تحيد عنهما عيناه. 
إنه الشعور الذي يدل ببراءة وفطرة على هذا الارتباط الأزلي بالأرض. 
ليست الأرض بما هي عليه من هيئة مادية وتفاصيل عادية، بل بما هي عليه من إحالات معنوية تضرب بعيداً في التاريخ وتحمل معها أصواتاً وحكايات عديدة سرعان ما تظهر على السطح دون سابق إنذار أو تحذير.
ليست حيفا أجمل المدن، وليست أنها وحدها التي تقف على تخوم البحر تضربها أمواجه، لكنها وجه حقيقي عن النكبة الفلسطينية. 
إنها تختصر الحكاية الفلسطينية بأكملها، فهي نموذج لما حاولت النكبة أن تفعل بالمكان الفلسطيني من محاولة محو وتدمير وتهجير وإحلال. 
المدينة الفلسطينية التي سطرت اسمها براقاً في التاريخ الفلسطيني الحديث، كانت محط استهداف من آلة التدمير والقتل والبطش والتفريغ من السكان، لأن حيفا كان يراد لها أن تكون غير حيفا، أو أن تخرج من نفسها. 
لكن حيفا التي حظيت بنخبة سياسية وثقافية متوهجة ومشتعلة وطنياً وعاشت فيها أسماء لامعة في الثقافة والعمل الوطني بعد النكبة، وبقيت تقاتل من داخل حيفا نجحت في أن تحافظ على حيفا. 
من إميل توما إلى إميل حبيبي ومن حنا نقارة إلى حنا أبو حنا إلى محمود درويش وغيرهم الكثيرون. 
نجحت حيفا في أن تقاوم عملية الصهر الكامل في عملية الأسرلة، وظلت هويتها العربية بارزة رغم كل شيء، وتحولت حيفا إلى منارة في ظل الفعل الوطني متعدد الأطياف الذي شكل الحزب الشيوعي بعد النكبة دائرته الأولى وصحيفته البارزة "الاتحاد" التي حملت للأدب الفلسطيني إرهاصات كبار  شعرائه. 
ورغم كل ما جرى فإنك مازلت ترى حيفا في حيفا. كنت أفكر وأنا أسير في السوق برفقة فؤاد نقارة أن الأشياء لا تتغير، وحتى لو تغير منها بعض الشيء فإن مشاعرنا وأفكارنا حول الأشياء (في هذه الحالة الأماكن) هي من يصوغ مدونة القلب ومنظومة الروح تجاهها.
وحيفا التي أنجبت إلى جانب كل من سبق ذكرهم لفلسطين أحمد دحبور وعاش فيها أبو سلمى وراشد حسين وآخرون، أيضاً تواصل فعاليتها في الحفاظ على هويتها الثقافية العربية من خلال النشاطات المتعددة التي تجري في المدينة سواء على صعيد تنظيم اللقاءات الأدبية التي تشكل لقاءات نادي حيفا الثقافي الأسبوعية (كل خميس دون انقطاع) قلبها إلى المسرح والموسيقي أو على صعيد التواجد المستمر للكتاب والشعراء من مناطق الجليل المختلفة في حيفا. "كل له حيفاه" كما يقول شاعر فلسطين الكبير أحمد دحبور. 
إنها الـ"حيفا" التي تعيش فيها ذكريات المرء أو تنمو فيها أحلامه حول العودة إلى مراتع الصبا.
في الطريق من غزة إلى حيفا أو من هناك إلى نابلس ثمة حكايات فلسطينية كثيرة، حكايات عن القرى التي هجر أهلها لكنها ظلت رغم عمليات المحو والطمس التي تجري بحقها. 
فهي لا تعيش فقط في حكايات اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في نواحي فلسطين أو حولها، بل أيضاً تعيش كجزء من حكاية الحلم الفلسطيني، الحلم الذي لا تمحوه ولا تطمسه كل سياسات الكون. 
إنه الحلم الذي يولد مع الفلسطيني. الحلم الذي تراه براقاً يلمع مع حبات المطر المتساقطة على شرفات نوافد حيفا وصوت ابن حيفا أحمد دحبور يردد خلف أمه:
"ففي حيفا تمطر السماء على الناس..لكن ملابسهم لا تبتلّ.
وفي حيفا..البحر يعيد الجبل إلى وراء، ويقدمه إلى الأمام".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد