مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية أثير لدينا نحن الفلسطينيين عدد من الأسئلة القلقة من رئيس قال كثيرا مما يستدعي الخوف أثناء حملته الانتخابية وأعاد التأكيد على بعضها بعد الفوز، وبلغت ذروة الخوف قبل تسلمه بأقل من شهر أثناء وبعد التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2334 والخاص بالاستيطان اِذ بتنا نعتقد أننا أمام زمن أميركي جديد أعادنا إلى نقطة الصفر.
ينبغي القول إن الارتباك الحاصل في تعاطينا مع المواقف الأميركية ناتج عن عدم قراءتنا بشكل معمق لهذه الدولة الفريدة والغريبة في تكوينها وبالتالي نعجز عن التعاطي معها بما تتطلبه قواعد السياسة، حجم الألغاز الكامنة في هذه الدولة يجعل من القلق أمرا طبيعيا من كل قراراتها وسياساتها وخصوصا فيما يتعلق بالصراع الدائر بيننا وبين إسرائيل وهو الأمر الذي عززه تاريخ طويل من الاصطفاف بلا حدود مع إسرائيل عسكريا وماليا ودبلوماسيا الأمر الذي قطع علينا كل الطرق التي سلكناها أثناء البحث عن الحرية.
ينبغي القول أيضا إن الرئيس دونالد ترامب هو الابن الحقيقي للروح الأميركية وهو خلاصة التجربة الأميركية على امتداد القرنين السابقين، وإن الرئيس باراك أوباما هو صدفة عابرة في التاريخ الأميركي ليس من حيث اللون فقط بل بدت شخصيته أقرب للمثقف منه لرجل الكاوبوي الذي يضع مسدسه على وسطه وكيس المال على ظهره وأبعد من أن يشبه القرصان الكبير مورجان في البحار الذي كان يهاجم سفن القراصنة الصغار المتناثرة في البحار أو في طريق عودتها إلى موانئ الكاريبي.
كانت الولايات المتحدة ولما زالت عصية على الفهم ولم تأخذ حقها في الدراسة والبحث في العالم العربي ومن هنا كانت الحيرة في العلاقة التي سادتها الشكوى من سلوك الدولة الأكبر دون بذل أي جهد لتعديل هذا السلوك وهو ممكن. وبقينا نراهن على فهم أو تفَهُّم أميركي لقضايانا وبالذات القضية الفلسطينية وأن يأتي ذلك بصحوة ضمير أميركية فيما أن إسرائيل لا تتوقف على العمل ليل نهار في الداخل الأميركي معتمدة على قراءة دقيقة لواقع الدولة الرأسمالية والتي يلعب فيها المال دور المحرك الرئيسي في صناعة القرار.
ولفهم أميركا لا بد من قراءة شكل تكوينها والعوامل التي أثرت في هذا التكوين منذ بداية تلك الدولة في نهاية القرن الثامن عشر فالدول مثل الأفراد تتأثر بالبدايات التي تتحول إلى هوية ثقافية تحدد سلوك البشر والدول حتى في أعتى لحظات القوة، وأن أفضل ما كتب عن هذا التكوين هو الكاتب الأميركي جاك بيتي في كتابه «العملاق» الذي وضعه أكثر من ثلاثين مؤلفا وقصدهم منه أن يكون كاشفا للتجربة الأميركية ونظرة في العمق على نشأة الدولة بل يعطي أي مثقف أو سياسي مفاتيح فهم الولايات المتحدة وكيفية التعامل معها.
يقول جاك بيتي، إن الولايات المتحدة تأسست على العنف والقسوة وطرد الهنود الحمر الذين كان عددهم 50 مليونا عند إقامتها ولم يعد منهم مليونان أو ثلاثة. لذا كان على الضمير الأميركي أن يجد مسوغات معنوية ونفسية لمغامرته تجاه المواطنين الأصليين فظهرت نظرية المنفعة وخلاصتها أن الله لم يخلق الأرض عبثا وإنما لبشر على أمثاله وأن هؤلاء البشر مكلفون بما ينفع الأرض وإذا كان نفع الأرض هو هدف البشر فاِن الأقدر على النفع هو الأحق بالأرض فظهرت أخلاقيات وقوانين نظرية المنفعة، ومشى فقهها في الثقافة السياسية الأميركية والقانون الأميركي ومن هنا تبدو البلادة الأميركية تجاه فلسطين وعملية الطرد وإقامة دولة إسرائيل.
المفتاح الثاني أن الولايات المتحدة لم تتشكل كدولة دفعة واحدة فرضتها قواعد الجغرافيا وأحكام التاريخ بل كان التشكيل بأن خاض جورج واشنطن حرب الاستقلال الذي بدأت خلاله الولايات المتحدة بثلاث عشرة ولاية ثم حرب أهلية. 
وفي إطار ذلك كان الوطن الأميركي يتشكل بصفقات تجارية فجزيرة مانهاتن وعليها نيويورك جرى شراؤها مرتين من زعيم هندي أحمر باعها لشركة هولندية وبعدها بعشرات السنين باعتها الشركة الهولندية إلى الولايات التي اتحدت انذاك، وكذلك ولاية كاليفورنيا تم شراؤها بصفقة مع إسبانيا وأيضا ولاية لويزيانا بصفقة مع فرنسا.
لذا فإن الفهم الأميركي للسياسة والأوطان ليس بعيدا عن الصفقة متجاهلا التاريخ والمعاناة والعواطف .. فالسلام بين مصر وإسرائيل تم شراؤه بصفقة خمسة مليارات دولار، ثلاثة تدفع لإسرائيل واثنان لمصر، ومحاولة شراء السلام بصفقة في «كامب ديفيد» الثانية حيث عرض الرئيس كلنتون انذاك على الرئيس عرفات ما بين 35 ـ 40 مليار دولار إذا ما وقع على اتفاق لذا يبدو الحديث عن العواطف والأخلاق والمثل إلى حد ما أصعب من أن يؤثر على العقل السياسي الأميركي.
المفتاح الثالث هو أن بعض الولايات تشكلت كتطور طبيعي للشركات مثل شركة فرجينيا التي أقيمت في تلك المنطقة وبدأت بتعبيد الطرق وفرض رسوم على العابرين ثم كبرت الشركة فأصبحت هي الولاية ومدراء الشركة هم قادة الولاية وأصبح قانون الشركة هو دستور الولاية .. إذن، لعب المال والمصالح دورا هائلا في تشكيل الوعي السياسي الأميركي.
الرابع هو أن الولايات المتحدة دولة معزولة طبيعيا بين محيطين ولم يتم تهديدها سابقا لذا لم تطور نظرية أمن خاصة بها ودخلت حربين عالميتين في أوروبا وحسمت عسكريا تلك الحروب بنظرية مصالح، ففي الحرب العالمية الأولى عادت القوات محملة بخزائن الذهب وفي الثانية عادت بالمال وجرفت معها كل المؤسسات الدولية في النظام الجديد الذي أعادت تشكيله بعد عصبة الأمم لتستولي على كل شيء وبدت حرب العراق الأخيرة جزءا من تلك النظرية والتي صيغت مبرراتها بالسلاح الكيماوي والانتراكس الذي اتضح خلو العراق تماما من تلك الأسلحة بل جرت في اليوم الأول محاصرة وحماية وزارة النفط العراقية فيما ترك متحف العراق للنهب.
تلك سيكولوجية الدولة الأميركية والتي لا مناص من فهمها كدولة لعب ولا زال يلعب المال والمصالح الدور الأبرز في قرارها ارتباطا بماضي تشكيلها وحاضر مصالحها ومستقبل مواطنها. وهي دولة مفتوحة للعمل لمن يجيد فهمها وليس هناك أبلغ تعبير مما كتبه المستشار السابق للرئيس عرفات بسام أبو شريف عندما أوفده الأول صيف 98 في محاولة للتأثير على القرار الأميركي وبدأ الرجل يشرح عن المظلمة الفلسطينية وتاريخ النكبة والرحيل .. قطع عليه الأميركي قائلا، «أنتم سذج» تأكد يا بسام أن الرأي العام الأميركي يعلم أن قضيتكم عادلة لكن إذا بقيتم تظنون أن عدالة قضيتكم وقرارات الشرعية الدولية والعدالة الإلهية ستنصفكم فأنتم مخطئون «..
ثم سأله المضيف الأميركي: أين أموال العرب.. وكأنه يريد أن يقول لم يعرف العرب كيفية ربط المصالح الأميركية بهم لذا بقينا في واد وأميركا في واد لا نعرف غير الشكوى وفيما المصالح الإسرائيلية والمال اليهودي أدار الرؤوس ودفة القرار في واشنطن وشركات المال التي أصبحت الأكثر تأثيرا على السياسة وها هي تعتلي سدة الحكم مباشرة.

Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد