شهدت العقود القليلة الماضية ثورة تكنولوجية عظيمة، أثرت على كل جوانب حياتنا، لا بل وتسللت إلى علاقتنا الخاصة وساهمت في إعادة تشكيل روابطنا الأسرية وعلاقتنا الاجتماعية، قبل انتشار هذه التكنولوجيا كانت الأسرة تجلس محتفياً حول مائدة الطعام بنجاح الأولاد أو الرجوع من السفر أو حصول الترقيات، أما الآن فيجلس الجميع متفرقين وبيد كل واحد منهم جهاز يأسره ويجعله بمعزل عن الآخرين. فكل مناسباتنا الآن أصبحت ذكرى عابرة نوثقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع أناس لا يعنون لنا شيئاً ولا تجمعنا بهم أي علاقة. ففقدت مناسباتنا الاجتماعية حرارتها وألفتها ودورها في تجمعينا وتقوية علاقتنا. يكمن التناقض الأساسي في شبكات التواصل الاجتماعي في المسمى ذاته. فقد صممت هذه الوسائل في الأساس لتجمعنا على صعيد واحد ولتجعل العالم كقرية صغيرة. ولكن سوء استخدامها أحالها أداة لتفريق وتمزيق هذه العلاقات الاجتماعية فأصبحت التكنولوجيا هي فقط من  تحدد متى نندمج مع من حولنا ومتى تسلبنا عالمنا إلى عالم افتراضي. بطنين إشعار واحد فقط!!

ولم يقف الأمر إلى هذا الحد، فقد طالت هذه الثورة عالم الأطفال البريء. لقد أصبح من المألوف جداً أن نرى أطفالاً يمتلكون حسابات على منصات التواصل الاجتماعي يلتقطون الصور وينشرون الأحداث حيث لا رقيب ولا حسيب. فبدلاً من أن يستمتع الطفل بجمال تجربته في مدينة الألعاب أو عيد ميلاد صديق، أو زيارة مكان أثري، أصبح جل اهتمامه موجهاً نحو توثيق الحدث، ليشاركه مع أصدقائه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فهل هذا ما عهدناه عن عالم الأطفال الجميل؟

إنَّ انفتاح الأطفال على التكنولوجيا جعلهم أمام فيضان من المواد المحظورة والثقافات الدخيلة التي يعمل الآباء جاهدين على توصيلها لأبنائهم بشكل مدروس ومراقب. لا بل وتضع هذه التكنولوجيا أبناءنا أمام مخاطر نفسية هم في غنى عنها. فقد أظهرت نتائج تقرير مؤسسة "كيزر التربوية" لعام 2010 أن الأطفال ما بين 8 -  18 عاماً يستخدمون الانترنت لمدة 8 ساعات يومياً. وهي فترة بلا شك كافية جداً لتصيبهم بالخمول والبلادة والإرهاق والأرق الإحباط.

ومن هنا نحن أمام مشكلة حقيقية يمكن أن نسميها "أزمة اللاتواصل" هذه الأزمة أطاحت بالحواجز والدروع الأسرية التي تسمح للآباء بمراقبة أبنائهم، وتراءت مخاوف تمزق الأواصر الأسرية ماثلةً للعيان. وتحمل هذه التكنولوجيا في طياتها عددا من المساوئ والسلبيات: أولها الضياع المبكر وفقدان البراءة. من المعلوم أن للأطفال عالمهم الخاص يكتنز بالبراءة والعفوية والشفافية. فكانت الأسرة الدرع الحصين الأول لحماية الأبناء من الاطلاع على وسائل العنف والكذب والغش وغيرها من العادات السيئة. ولكن انتشار التكنولوجيا وتسللها إلى كل بيت، صعَّب مهمة الرقابة على الآباء. فقد فاقت هذه الثقافات قدرة الدرع الأسري على التحمل.

ومن مساوئ التكنولوجية أيضاً هي تعميم الخصوصيات. فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي صفحة إخبارية تحتوي على مستجدات الأصدقاء: من زواج، ونجاح، وسفر، ورحلات وغيرها. ففي السابق اعتاد الأطفال على مشاركة هذه الأخبار داخل نطاق الأسرة فقط وتربوا على عدم إطلاع الغرباء عليها. أما الآن فلقد فتح الباب على غاربه!!

يتعرض أبناؤنا للإهانات والمضايقات سواء على أرض الواقع أو في العالم الافتراضي. وتنعكس هذه الممارسات على أطفالنا بشكل سلبي. فقد أظهرت نتائج دراسة أجرتها "الجمعية الطبية الأمريكية" عام 2013 على  1420 طالباً في سن المراهقة ممن تعرضوا أو تسببوا في أعمال الترهيب الإلكتروني أن الضحايا يعانون من اضطرابات نفسية كالتوتر وانعدام الأمان في الأماكن العامة "رهاب الفضاء" ووصل الأمر ببعضهم إلى التفكير بالانتحار. أما من يقومون بأعمال الترهيب الإلكتروني فكانوا أكثر عزلة وتوحداً وتجنباً للاختلاط مع الآخرين. أن السبب وراء هذه التصرفات هو ضعف التعاطف مع الآخرين. التعاطف هو رمز لآدميتنا وهو أحد مراحل النضج الروحي للفرد وهو مكون ضروري للنجاح اجتماعياً وأكاديمياً. فقد أثبتت الدراسات أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي أثَّر على هذا المكون بسبب شح التفاعل الإنساني مع الآخرين. فمن خلال التفاعل مع الآخرين نتعلم كيف نتعاطف، ونحزن، ونسامح، ونحسب أقوالنا وأفعالنا وتأثيره على الآخرين.

الآن بعد أن تعرفنا على مساوئ التكنولوجيا، كان لا بد من تقديم بعض الحلول والنصائح للتعامل معها بحكمة. بعض من يقرؤون هذا المقال يقولون لأنفسهم "لا! لن يكون أبنائي فريسة للثورة التكنولوجية." احذر أخي فهنا مكمن الخطر ويجب أن تعي جيداً في قرارة نفسك أنك ليس بمنأى عن هذا العالم إلا إذا أردت أن تسافر بأولادك وتعيش معهم في وسط غابة حيث لا كهرباء ولا حواسيب!!  من هنا، فالحكمة تملي علينا أن نتعامل مع الأمور بواقعية. فيجب علينا استيعاب الغزو الإلكتروني وأن  نجعل من قصص الفشل التي نسمعها كل يوم عبرة لنا لحماية أبنائنا من السقوط في أوكار التعنيف الإلكتروني. لنعطي أبناءنا بعضاً من وقتنا لنحدثهم ونتفاعل معهم. فإذا أردنا أن يتعلم أطفالنا كيف يتكلمون ويتفاعلون مع الآخرين، فلنكن نحن قدوتهم في ذلك. اروِ لطفلك القصص وخصص وقتاً للعب معهم. علَّم أبناءك كيفية التعامل مع الاختلافات وكيفية إبداء رأيهم بشكل سلمي دون اللجوء للنقد الهدام أو التجريح. يمكننا أيضاً استخدام البرامج والتطبيقات التي تمكن الآباء من تخصيص البرامج والمواد التي يشاهدها الأطفال. والأهم من ذلك كله، لا تقضِ أنت –أيها الأب، أيتها الأم- وقتاً طويلاً أمام هذه الشاشات؛ لأن الأطفال يقلدوننا في كل أفعالنا.

رغم كل ما تقدم، إلا أنه لم يفت الأوان بعد. فما زال بإمكاننا تقويم الوضع وإيجاد الحل، ولكن يقع علينا نحن – آباء ومربين- دور عظيم في توجيه وعي الأبناء وتربيتهم على تحكيم ضمائرهم في كل كبيرة وصغيرة حتى لا يسلبهم هذا المارد التكنولوجي إنسانيتهم.

 

 emad@apextac.net إيميل الكاتب:

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد