2014/09/17
218-TRIAL-
تشهد الساحة الفلسطينية هذه الايام جدلا صاخبا حول المحكمة الجنائية الدولية او ما يعرف بميثاق روما واهمية انضمام فلسطين اليه لمقاضاة مرتكبي الجرائم الخطيرة من الاسرائيليين سواء على المستويات السياسية او العسكرية. ومع ان موضوع الانضمام الى المحكمة قيد البحث منذ سنوات خاصة بعد الحملة العسكرية 2008/2009 على قطاع غزة ، الا انه اخذ منحى خاصا بعد الاعتراف العالمي بفلسطين دولة مراقب غير عضو في الامم المتحدة ليصبح موضوع الساعة في ضوء الهجوم الحربي الاخير على قطاع غزة وما تخلله من اقتراف جرائم حرب وأخرى ضد الانسانية وما ترتب عليه من تشكيل مجلس حقوق الانسان للجنة تحقيق دولية في سلوك القوات الاسرائيلية.
ينبع اهتمامنا في المركز الفلسطيني للعدالة الانتقالية بموضوع المحكمة الجنائية الدولية ومحاكمة مجرمي المحتل الاسرائيلي لأنه في صلب الحاجة الوطنية في المقام الأول، ولأن العدالة الانتقالية، بما تشمله من عدالة جنائية، تعتبر في يومنا هذا من أهم الآليات المستخدمة لتحقيق العدالة وسيادة القانون في مجتمعات ما بعد الصراع أو في فترة الانتقال من حالات الاحتلال او النزاع الداخلي أو قمع الدولة.
قد يلاحظ القارىء اننا استخدمنا تعابير أخرى غير تعبير "العدوان" عند الحديث عما تعرض له قطاع غزة مثل " الهجوم الحربي" او " العملية العسكرية"، وذلك منعا للالتباس القانوني بشأن توصيف الوضع القانوني لقطاع غزة.
يستخدم تعبير " العدوان" في القانون الدولي عند استخدام القوة المسلحة ضد اقليم دولة مستقلة وذات سيادة او لزعزعة استقراها السياسي، وليس هذا واقع الحال بالنسبة لقطاع غزة الذي يحتفظ بوضعه القانوني، شأنه شأن الضفة الغربية بما في ذلك القدس ، كأرض محتلة. بالاضافة الى ذلك، فان الاحتلال بحد ذاته هو حالة عدوانية مستمرة لانه وليد العدوان أي الاستخدام غير المشروع للقوة المسلحة الذي يشكل أحد الجرائم الخطيرة طبقا للقانون الدولي والنظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وعلى هذا الاساس تم شرعنة مقاومة الشعوب للاحتلال والاستعمار الاجنبي.
ومع ان التوجه الفلسطيني العام يدفع نحو الانضمام الى ميثاق روما الّا ان التردد او الاحجام هو حال اقلية فلسطينية مستندة الى بعض التحليلات والاقلام التي تحذر من خطورة الانضمام الى الميثاق المذكور لما قد ينطوي عليه من محاكمة فلسطينيين امام تلك المحكمة.
من هنا، قد يكون مفيدا توضيح بعض الجوانب المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية وآفاق الاستفادة منها فلسطينيا، عسى ان يسهم في ازالة ما علق في اذهان المواطن الفلسطيني من التباس وغموض، ويساعد في اتخاذ القرار الأفضل لخدمة المصلحة الوطنية الفلسطينية.
أولا: خلفية تاريخية قانونية لا يخفى على احد اننا في فلسطين نفتقد الى تطبيق القانون الدولي لعدم وجود الارادة السياسية لدى الدول الكبرى ولان مصالح هذه الدول لا تقتضي منها العمل بجدية على انصاف الشعب الفلسطيني من خلال تمكينه من ممارسة حقه في تقرير المصير وصولا الى الانعتاق من الاحتلال واقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. وطوال فترة طويلة كان يفتقر القانون الدولي عموما الى آليات التطبيق وما زال يعاني من انتقائية التطبيق او ما يعرف بازدواجية المعايير. وقد شهد عقد التسعينات من القرن الماضي تطورات بارزة على صعيد بلورة وترسيم آليات لتطبيق القانون الدولي خاصة فيما يتعلق بملاحقة ومحاكمة مقترفي الجرائم الخطيرة والمسؤولين عنها.
وبهذا الخصوص، انشئت المحكمة الجنائية الدولية من أجل يوغسلافيا السابقة ومقرها في لاهاي (هولندا) في شباط 1993، بموجب قرار مجلس الأمن 808، وتقتصر ولايتها القضائية على الأعمال المرتكبة في يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991، وتلاها انشاء المحكمة الجنائية الدولية من أجل رواندا، ومقرها أروشا في تنزانيا في تشرين الثاني 1994، وتقتصر ولايتها القضائية على الأعمال التي ارتكبت في رواندا في العام 1949. وقد نجحت هاتان المحكمتان في محاكمة بعض المجرمين منهم سلوبودان ميلوسوفيتش ، ورادوفان كاراديتش. وقد ترافق هذا مع قيام بعض الدول الاوروبية باعتماد مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي تنفيذا لالتزاماتها القانونية الواردة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، بحيث اصبح متاحا امام ضحايا الجرائم الخطيرة او من يمثلهم رفع قضايا امام محاكم هذه الدول بغض النظر عن جنسية الضحية او الجاني او مكان وقوع الجريمة.
وفي الحقيقية ان جهود المجتمع الدولي لاقرار مبدأ الولاية القضائية لمحاكمة مرتكبي الجرائم الجسيمة تعود الى ما بعد الحرب العالمية الاولى عندما نصت معاهدة فرساي 1917 على محاكمة امبراطور المانيا غليوم الثاني وعلى الزام الحكومة الالمانية بتقديم الاشخاص المتهمين باقتراف جرائم ضد قوانين واعراف الحرب امام المحاكم العسكرية لدول الحلفاء المنتصرة في الحرب. لكن هروب غليوم الثاني الى هولندا ورفضها تسليمه حال دون محاكمته، واقتصر الامر على محاكمة بعض العسكريين امام المحاكم الوطنية . كذلك حاولت ، ودون نجاح، عصبة الأمم في عام 1920 عبر تشكيل لجنة قانونية لاعداد مشروع لإقامة محكمة دائمة للعدل الدولية وفي عقد مؤتمر دولي في جنيف عام 1937 وما شهده من إبرام اتفاقية لإنشاء محكمة جنائية دولية، لكن معارضة بريطانيا وروسيا حالت دون ذلك. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية قامت دول الحلفاء بتأسيس محكمة نورمبرغ في 8 آب 1945 لمحاكمة المسؤولين الألمان، وتأسيس محكمة طوكيو في 9 كانون الثاني 1948 لمحكمة المسؤولين اليابانيين. لكن هذه المحاكمات كانت في الواقع سياسية للاقتصاص من المهزومين وفرض الشروط عليهم، علاوة عن كونها عدالة مجزوءة لانها لم تحاكم المنتصر الذي اقترف جرائم حرب وبشكل خاص من استخدم السلاح النووي لأول مرة في التاريخ ضد المدنيين في هيروشيما ونيازاكي باليابان تاركا مئات آلاف الضحايا ومعاناة انسانية حتى يومنا هذا.
يجدر الاشارة هنا، الى انه فيما يتعلق باغتيال الرئيس رفيق الحريري تم انشاء محكمة خاصة بلبنان في العام 2007 تستند الى القانون اللبناني وهي ذات طابع دولي تختص بالجريمة الارهابية التي تدخل ضمن الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة على اعتبارا انها تهدد الامن والسلم الدوليين. وعليه، تعامل مجلس الامن مع جريمة الاغتيال كجريمة ارهابية لا تدخل ضمن اختصاص الحكمة الجنائية الدولية التي تختص بالنظر في جرائم الحرب وجرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية.
ثانيا: تأسيس المحكمة الجنائية ومع ان المجتمع الدولي ممثلا بالجمعية العامة للأمم المتحدة أدرك منذ ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها ، وعلى فترات متفاوتة، الحاجة الى تأسيس محكمة دولية مستقلة لمحاكمة مجرمي الحرب، الا ان هذه الجهود لم تستأنف بشكل جدي الا في عام 1989 عند قيام لجنة القانون الدولي بمناقشة طبيعة المحكمة الجنائية الدولية المقترحة والأحكام ذات الصلة باختصاصها وقواعد الإجراءات التي يتعين اتباعها، وصولا الى قيام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995 بإنشاء اللجنة التحضيرية لإنشاء المحكمة، واستغرق عمل اللجنة ثلاث سنوات تقريبا تخللها اجتماعات عديدة ونقاشات مستفيضة لمشروع الاتفاقية حتى انعقاد المؤتمر الدبلوماسي في روما في الفترة من 15 إلى 17 تموز 1998، بمشاركة وفود من معظم الدول والعديد من المنظمات غير الحكومية اضافة الى عدد من الوكالات الدولية المتخصصة. وقد اعتمد المؤتمر باغلبية ساحقة النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فمن أصل 160 دولة مشاركة، صوتت لصالحه 120 دولة واعترضت عليه 7 دول هي: من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل (بسبب اعتبار الاستيطان جريمة حرب) وروسيا والهند والصين وليبيا وقطر. وقد وصل عدد الدول المنضمة للاتفاقية الى 123 دولة بينها دولتان عربيتان هما جيبوتي والاردن التي كانت من أوائل الدول المنضمة عالميا.
من هنا تأسست المحكمة بالاستناد الى اتفاقية روما لعام 1998، وذلك نسبة الى مكان انعقاد المؤتمر الدبلوماسي الذي اعتمد النظام الاساسي للمحكمة. وقد دخل هذا النظام حيز النفاذ في 1 تموز 2002 بعد مصادقة 60 دولة عليه. وعلى خلاف المحاكم الدولية المؤقتة او الخاصة كما هوا الحال في يوغسرفيا سابقا او رواندا او تلك المشكلة بالاستناد الى القانون الجنائي الدولي كما هو الحال في لبنان او سيراليون او تيمور الشرقية، فان المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة قضائية دولية دائمة، تحظى بولاية عالمية لمحاكمة مقترفي الجرائم الخطيرة المتمثلة في جرائم الحرب وضد الانسانية والابادة والعدوان.
تعتبر المحكمة الجنائية الدولية مستقلة عن الامم المتحدة تمويليا ووظيفيا واداريا، وقد تم تنظيم العلاقة القانونية بينهما من خلال اتفاق خاص. وللعلم، ان المحكمة قد فتحت تحقيقا في اربع قضايا: أوغندة الشمالية وجمهورية الكونغو الديمقراطية والجمهورية الافريقية الوسطى ودارفور. كما أنها أصدرت 9 مذكرات اعتقال وتحتجز اثنين مشتبه بهما ينتظران المحاكمة. ورغم ان مقرها مدينة لاهاي بهولندا، كما أسلفنا، الاّ ان بمقدورها القيام باجراءاتها في أي مكان آخر.
وهناك من يخلط بين المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية التي هي أحد اجهزة الامم المتحدة وأنشئت بموجب ميثاقها وتختص في النزاعات بين الدول التي تقبل الاحتكام امامها، وهي اشبه ما تكون بهيشة تحكيم دولية، اضافة الى تقديمها فتاوي وآراء استشارية للأمم المتحدة او أي من هيئاتها كما هو الحال بالنسبة لفتواها بشأن جدار التوسع والضم الاسرائيلي في تموز 2004. كذلك لاحظنا ان معظم السياسيين والاعلاميين يستخدمون تعبير "محكمة الجنايات الدولية"، فيما التسمية الأصح هي المحكمة الجنائية الدولية لان المعني اللغوي يختلف كما ان الترجمة الدقيقة للتسمية الانكليزية هي: International Criminal Court ، ولو كانت "الجنايات الدولية" لاختلف النص. اضافة الى ذلك، فانه في حالة "المحكمة الجنائية الدولية" فان صفة الجنائية والدولية تعود الى المحكمة، بينما في حالة "محكمة الجنايات الدولية" فان صفة الدولية تعود الى الجنايات. المدعي العام للمحكمة حاليا فاتو بنسودا وكان سابقا لويس مورينو اوكامبو المعروف بتأييده الكبير لاسرائيل والذي لم يبخل عليها بمدها بالمشورة القانونية.
ثالثا: الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة: 1. جريمة الابادة الجماعية: وهي أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئيا: قتل أفراد الجماعة، الحاق ضرر جسدي او عقلي جسيم بهم، اخضاعها عمدا لأحوال معيشية يقصد بها اهلاكها كليا او جزئيا، فرض تدابير تستهدف منع الانجاب، ونقل أطفال الجماعة عنوة الى جماعة أخرى.
2. الجرائم ضد الانسانية: أي فعل من الأفعال التالية يرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم : القتل العمد، الابادة، الاسترقاق، ابعاد السكان او النقل القسري لهم، التعذيب، السجن او الحرمان الشديد من الحرية البدنية، الاغتصاب او الاستعباد الجنسي او الاكراه على البغاء او الحمل القسري او التعقيم القسري، الاختفاء القسري، جريمة الفصل العنصري، واضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرفية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس.
3. جرائم الحرب: وهي الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والانتهاكات الخطيرة الاخرى للقوانين والأعراف السارية سواء في المنازعات المسلحة الدولية او غير الدولية أي الحروب الاهلية. ولأن النظام الأساسي قد أدرج قائمة طويلة من الأفعال التي تشكل جرائم حرب، فاننا سنكتفي بذكر بعضها والمتعلقة بالنزاع المسلح الدولي، ذلك ان المقاومة المسلحة للشعوب الخاضعة للاحتلال او السيطرة الاجنبية تم تصنيفها من ضمن النزاعات المسلحة ذات الطابع الدولي ومنها: القتل العمد، التعذيب، التدمير الواسع للمتلكات على نحو لا تقتضيه ضروروة عسكرية، الابعاد او النقل غير المشروعين او الحبس غير المشروع، ارغام اسير الحرب او أي شخص آخر مشمول بالحماية ( مثل سكان الاقليم المحتل) على الخدمة في صفوف قوات معادية، أخذ الرهائن، توجيه هجمات ضد المدنيين، تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية، استخدام الاسلحة السامة او الرصاص المتمدد والمتفجر في الجسم، تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم ، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية، استخدام الاسلحة التي تسبب الام لا مبرر لها وعشوائية ، وقيام دولة الاحتلال على نحو، مباشر أو غير مباشر ، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها ( الاستيطان) أو أبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها.
هناك بعض الافعال وردت في جرائم الحرب وفي الجرائم ضد الانسانية مثل التعذيب والقتل العمد، وهذا ليس تكرارا وانما اختلاف في ظروف حدوث الفعل، فاذا حدث التعذيب او القتل العمد في اطار هجوم واسع النطاق ومنهجي فهو جريمة ضد الانسانية، واذا ارتكب على نطاق محدود او كحالات فردية في القتال او الاحتلال فهو جريمة حرب. اضافة الى ان الجرائم ضد الانسانية يمكن ان ترتكب في وقت السلم من قبل الدولة ضد مواطنيها بناء على توجيهات من المسؤولين وتنفيذ من قبل الافراد.
4. جريمة العدوان: لا تمارس المحكمة اختصها حاليا على هذه الجريمة لان اركانها لا تزال قيد النقاش أي بانتظار التوصل الى تعريف متفق عليه لهذه الجريمة.
آفاق الاستفادة من المحكمة فلسطينيا لغاية بلورة موقف فلسطيني بشأن الانضمام الى ميثاق روما وامكانية الاستفادة من المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة الاسرائيليين المسؤولين عن اقتراف جرائم خطيرة من المفيد توضيح ما يلي:
أولا: اقتراف جرائم ضمن اختصاص المحكمة: في ضوء التعريف أعلاه للجرائم الخطيرة التي تدخل في اختصاص المحكمة، يتضح ان قوات الاحتلال الاسرائيلي قد ارتكبت في هجومها الأخير على قطاع غزة وما سبقه من عمليات عسكرية جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية. وقد سبق لتقرير غولدستون في العام 2009 ان اشار للأفعال االتي تشكل هذه الجرائم. ومن ابرز الافعال الاسرائيلية التي تدخل في اختصاص المحكمة ما يلي: استهداف المدنيين غير المشاركين في القتال، الهجوم على الأهداف المدنية المخصصة للايواء كالمدارس ولتقديم الخدمات الطبية كالمشافي ومركبات الاسعاف والاحياء والمباني السكنية التي تعرضت لتدمير منهجي واسع النطاق، تدمير البنية التحتية والمواد التي لا غنى عنها لبقاء الناس، منع عمليات اخلاء المصابين وتقديم العون للمنكوبين، الاستخدام المفرط للقوة واستخدام اسلحة تحدث آلاما لا ضرورة لها، بالاضافة الى كل ذلك الاستيطان الذي لا يتوقف على مدار الساعة ويعتبر جريمة حرب.
ثانيا: ممارسة المحكمة اختصاصها في الوضع الفلسطيني يكون من خلال : 1. الاحالة من قبل مجلس الأمن، عملا باحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، إلى المدعي العام للمحكمة، كما حصل في موضوع دارفور في السودان. وهذا غير وارد في الحالة الفلسطينية في ضوء التجربة مع مجلس الامن التي لا تتوفر لديه هكذا نية او رغبة.
2. ان يباشر المدعي العام التحقيق من تلقاء ذاته في أي من الجرائم المقترفة. تظهر التجربة كذلك انه لا يوجد نية بذلك، وكان بالامكان ان يمارس هذه الصلاحية في العام 2009 في ضوء النتائج التي توصلت اليها انذاك لجنة التحقيق المشكلة من قبل مجلس حقوق الانسان، وهو ما يعرف بتقرير غولدستون.
3. انضمام فلسطين الى ميثاق روما او تقديم اعلانا يودع لدى مسجل المحكمة تقبل فيه اختصاص المحكمة. وأصبحت هذه الامكانية متاحة منذ اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة غير عضو في 29 تشرين ثاني 2012. علما انه يتوفر لدى فلسطين أحد الشرطين السابقين لممارسة الاختصاص وهو وقوع الجريمة في اقليمها. من المفيد الاشارة الى ان فلسطين ومن خلال وزير العدل الاسبق قدمت في العام 2009 اعلانا تقبل فيه ممارسة المحكمة اختصاصها، لكن المدعي العام السيد اوكامبا، المعروف بانحيازه لاسرائيل، رفض الطلب على أساس ان الوضع الذي منحته الامم المتحدة لفلسطين هو دولة مراقب لا دولة غير عضو، على الرغم من قبول فلسطين بصفتها دولة كاملة العضوية في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في 31 تشرين أول 2011 . بالمقابل، فان الامين العام للأمم المتحدة قبل في تموز 2008 انضمام جزر كوك التي هي ليست دولة غير عضو وانما كيان له صفة حكم ذاتي مع نيوزيلندا منذ عام 1965، علما ان عدد سكان جزر كوك 25 ألف نسمة تقريبا ومساحتها 265 كم مربعا.
ثالثا: الاختصاص الزمني: لا يمكن للمحكمة ان تمارس اختصاصها على أية جريمة ارتكبت في فلسطين قبل 1 تموز 2002 وهو تاريخ بدء نفاذ نظامها الأساسي. وبهذا الخصوص يجدر الاشارة الى انه اذا كانت هناك رغبة فلسطينية في ان تمارس المحكمة الجنائية اختصاصا مستقبليا، فانه يترتب عليها الانضمام الى ميثاق روما ليبدأ الاختصاص بعد ستين يوما من قبول الانضمام . وفي هذه الحالة لن يشمل اختصاص المحكمة الجرائم التي وقعت سابقا بما في ذلك في العملية العسكرية الاخيرة على قطاع غزة، وهذا ضروري لتجنب المخاوف المتعلقة بامكانية المساءلة على افعال ارتكبت من قبل فلسطينيين. اما اذا كانت الرغبة شمول هذه الجرائم والعودة الى تموز 2002 فانه ينبغي تقديم اعلان بقبول الاختصاص خلال تلك الى حين استكمال كافة اجراءات ومتطلبات الانضمام الى الميثاق.
رابعا: الالتزامات الناشئة عن انضمام فلسطين: يترتب على انضمام فلسطين الى ميثاق روما ، شأنها شأن اية دولة أخرى، مجموعة من التدابير والالتزامات. ولكن لا بد من الأخذ بالحسبان أهمها:
1. ان فلسطين دولة تحت الاحتلال وان اسرائيل ، الدولة القائمة بالاحتلال، يقع على عاتقها مجموعة من المسؤوليات والالتزامات طبقا لقواعد القانون الدولي الانساني وبشكل خاص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية المدنيين وقت الحرب. فهي المسؤول الأول عن الامن في الارض الفلسطينية المحتلة وعن مناحي الحياة الاساسية للفلسطينيين. وعليه، فان المسؤولية القانونية لدولة فلسطين عما يجري في اقليمها هي بالضرورة مسؤولية محدودة، ينبغي ان تتناسب والصلاحيات المنوطة بها. السلطة الفلسطينية لا تتمتع بسلطات سيادية وليس لديها اليد العليا فيما يجري.
2. ملائمة القانون الفلسطيني مع القانون الدولي والنظام الأساسي للمحكمة، من خلال مثلا تعديل قانون العقوبات ليشتمل على الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمعاقبة عليها او تضمين القانون الاساسي الفلسطيني نصوصا بهذا الشأن.
3. التعاون مع المحكمة فيما تجريه في اطار اختصاصها من تحقيقيات في الجرائم والمقاضاة عليها. يتحدث النظام الاساسي هنا عن الدولة العضو في ميثاق روما. السؤال المطروح: هل ينطبق هذا التعاون على دولة غير عضو لكنها قدمت اعلانا بقبول اختصاص المحكمة؟ قد يرى البعض ان الالتزام بالتعاون مع المحكمة يشملها على اعتبار انها من الناحية الفعلية بمقام العضو. وقد يرى آخرون انه لا يشملها انطلاقا من النص الحرفي للنظام الاساسي الذي تخاطب المادة 86 منه الدولة الطرف.
خامسا: امكانية مقاضاة فلسطينيين
من المستبعد ان يتم مقاضاة فلسطينيين من قبل المحكمة الجنائية الدولية للأسباب التالية: 1. عدم انضمام اسرائيل الى ميثاق روما او تقديمها اعلانا تقبل فيه اختصاص المحكمة، وهو امر مستبعد لانه يلزمها الانصياع للنظام الاساسي وبشكل خاص ما يتعلق بوقف كافة النشاطات الاستيطانية وازالة المستوطنات وتعويض المتضررين من اقامتها، ولأن اسرائيل من وجهة نظر المجتمع الدولي دولة احتلال هي المسؤولة عن الامن والنظام العام وملاحقة مرتكبي المخالفات الجسيمة او المشتبه بهم، وهي تقوم بذلك حسب رؤيتها ومقاييسها الخاصة وعلى نحو اكثر قسوة من أي قضاء، من اعتقال ومحاكمة آلاف الفلسطينيين وصولا الى التصفية الجسدية لمئات السياسيين والمقاومين الفلسطينيين.
2. من المستبعد كذلك ان يبادر مجلس الامن الدولي او المدعي العام للمحكمة بتحريك هذا الموضوع ضد الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، في الوقت الذي امتنع كلاهما عن القيام بذلك ضد اسرائيل الدولة المعتدية والفائمة بالاحتلال على الرغم من مواظبتها على ارتكاب جرائم خطيرة حسب لجان وهيئات ومنظمات دولية حيادية.
3. اية اتهامات توجه ضد أي فلسطيني بشأن ارتكاب مخالفات معينة، فان تلك المخالفات تكون تمت في سياق التصرف المعقول للدفاع عن النفس او عن آخرين او عن ممتلكات لا غنى عناه لبقاء الناس، وذلك عملا باحكام المادة 31 الفقرة ج بشأن امتناع المسؤولية الجنائية.
سادسا: خطة استباقية اسرائيلية مضادة
كما يبدو ان اسرائيل قد وضعت خطة استباقية لسحب البساط من تحت المحكمة الجنائية في حال انضمام الفلسطينيين اليها من خلال شروعها باجراء تحقيق خاص بها مستفيدة من حقيقية الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية بما يعني وحسب المادة 17 من النظام الاساسي عدم قبول الدعوى اذا كانت تجري التحقيق او المقاضاة فيها دولة لها ولاية عليها، علما ان اسرائيل لها ولاية كون الجناة يحملون جنسيتها. والمعروف ان المحكمة الجنائية ليست كيانا فوق الدول او بديلا عن القضاء الوطني إنما الأصل في الاختصاص هو للقضاء الوطني، وان المحكمة تمارس اختصاصها في حالة تبين ان الدولة ذات الولاية غير قادرة او غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق او المقاضاة. وفي هذا السياق، تحدثت وسائل الاعلام الاسرائيلية ومنظمة بيتسيلم الحقوقية الاسرائيلية عن اعلان الجيش الاسرائيلي قيام المدعي العام العسكري ب فتح تحقيق جنائي في مجريات الهجوم على قطاع غزة وفي عشرات الحوادث بما في ذلك استهداف مدارس الاونروا ومقتل الأطفال على شاطىء غزة يوم 14 تموز 2014.
يجب رفض هذه الخطة الاستباقية على قاعدة ان اسرائيل دولة غير راغبة في اجراء تحقيق جدي ومقاضاة المتورطين، ذلك انها سبق وان حققت في الاف الحوادث لكنها كانت تبرىء عموما المتورطين وان القلة القليلة التي تم ادانتها صدرت بحقها احكاما شكلية مخففة جدا لا تتناسب وحجم الجرم المقترف، اضافة الى ان الجرائم المقترفة لا تتم عموما بمبادرات فردية وانما تنفيذا لقرارات اتخذت من قبل مستويات عسكرية وسياسية عليا. فعلى سبيل المثل، هل الاستهداف المتكرر لمدارس الاونروا والتدمير المنهجي الواسع للمباني من قبل الطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة سلوكا فرديا ام يأتي ضمن خطة عسكرية صادرة عن جهات عليا؟ ماذا بالنسبة للاستيطان الذي يعتبر جريمة حرب؟ اليس هو سياسة رسمية ثابتة دأبت عليه الحكومات المتعاقبة؟ بالطبع لن يشمل التحقيق الاسرائيلي الاستيطان. علاوة على ذلك، فان اسرائيل اعلنت اعتزامها عدم التعاون مع لجنة التحقيق الدولية التي شكلها مجلس حقوق الانسان، فهل هذا يعبر عن جدية من قبلها في التحقيق وفي احترام الآليات الدولية لملاحقة مقترفي الجرائم الخطيرة وتطبيق القانون الدولي.
وفي الختام، نرى ان الانضمام الى ميثاق روما هو حاجة وطنية يجب انجازه دونما ابطاء او تردد، وهو ليس نقيضا لأي خطط عمل سياسية او ديبلوماسية وانما رافعا ومعززا لها. ولا ضير في عقد لقاءات موسعة لمختصين لفحص الموضوع بشكل معمق وتقديم التوصيات المناسبة اذا كان الحائل دون الانضمام مسؤوليات وتداعيات قانونية معينة. 215
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية