قبل انتشار فيروسات التكفير وآفة التحريم في المجتمع بهذه السرعة الوبائية منذ سنوات بعيدة ذهبت إلى معرضٍ للكتب أقامته جماعة تُبشّر بالدين الجديد القادم من عمق الصحراء العربية القاحلة المُجدبة، فتجوّلت في جنباته دون أن أعثر على مُبتغاي من الكتب، فسألت أحد المشرفين على المعرض عن كتاب ( الحلال والحرام في الإسلام ) للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، فقال لي: تقصد كتاب الحلال والحلال في الإسلام، فأجبته مؤكداً على اسم الكتاب ( الحلال والحرام في الإسلام )، ولم أعلم بأنه يسخر من الكتاب وصاحبه قبل أن يوضح كلامه قائلاً: الحلال والحلال في الإسلام لإن القرضاوي – مضيفاً عبارة – " قرض الله لسانه " لم يجعل في الإسلام شيئاً حراماً فأباح التصوير والغناء والموسيقى والسينما وحلق اللحية وكشف المرأة لوجهها ... فدافعت عن الكتاب وصاحبه مبيناً أهمية احترام العلماء حتى لو لم تعجبنا بعض اجتهاداتهم وآرائهم، فأخذ صاحبنا يستشهد بآراء (علماء المسلمين) الذي لا يعترف بغيرهم في الشيخ يوسف القرضاوي، التي تتراوح بين اتهامه بالضلال والبدعة ومخالفة الشريعة وداعية جهنم ... لتنتهي بمطالبة أحدهم الشيخ القرضاوي بالتوبة عما بدر منه من بعض الآراء والاجتهادات وإلاّ يجب على ولي الأمر ضرب عنقه وقتله مرتداً.

هذا التطاول على العلماء – من غير مذهبهم – بهذه الوقاحة الحمقاء هو مُنتج أصيل ومُخرج أكيد من إبداعات ثقافة التحريم المولودة من رحم التكفير، والتي تصُم آذاننا ليل نهار وتُرهق أعصابنا في كل مناسبة أفتى فيها جهابذة الدين الجديد بحرمة الاحتفال بها، أو كل عادة محفورة في عمق الوجدان الشعبي رأى مُلاّك الحقيقة المطلقة أنها بدعة من رجس الشيطان يجب الابتعاد عنها بُعد المشرق عن المغرب. وتحت سوط الإرهاب الفكري والقمع الثقافي والاحتكار الديني وادعاء تمثيل الإسلام دون غيرهم تم تحريم الاحتفال بالذكرى السنوية للمولد النبوي الشريف باعتبارها ( بدعة منكرة)، وتم تحريم الاحتفال بمناسبات وطنية واجتماعية وشخصية عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر الاحتفال بيوم عيد الأم وشم النسيم وأعياد الميلاد والزواج الخاصة وغيرها من المناسبات التي تُطلق سعار الجدل العقيم وحرارة النقاش السقيم الذي بملأ صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت كلما مرت مناسبة منها بطريقة تثير الملل والسأم والضجر من تكرارها وإعادة ترديد نفس المقولات والحجج في محاولة مستميتة لفرض رؤية أُحادية لا تقبل الرأي الأخر واجتهاد واحد لا يعترف بالاجتهادات الأخرى، بل لا يرى الإسلام إلا من رؤيته الخاصة واجتهاده الأوحد.

والقضايا التي يُثيرها مروجو ثقافة التحريم قضايا تافهة إذا ما قيست بالقضايا الكُبرى التي تؤدي إلى تقدم الأمم ونهضة الشعوب وارتقاء المجتمعات. وقضايا صغيرة إذا ما قورنت بأُسس الحضارة وشروط النهضة وأسباب التطور. وإذا ما تأملنا أسباب تقدم بعض الدول الإسلامية غير العربية مثل ماليزيا وإيران وتركيا عندما امتلكت كل منها مشاريعها النهضوية الكبرى نجد أنها تركت القضايا التافهة التي لا زال العرب غرقى في تفاصيلها حتى آذانهم، ومنها : قضايا المرأة فبدلاً من أن نبحث عن كيفية تمكين المرأة لتأخذ دورها الطبيعي في المجتمع وتشارك في الانتاج الاقتصادي والثقافي وغيره، لازلنا نتجادل في قضايا من المفترض تجاوزها منذ زمن بعيد كأولوية ارتداء الحجاب أم النقاب للمرأة، وجواز قيادة المرأة للسيارة أم لا، وإن كان صوت المرأة عورة أم إنه ليس بعورة. ومنها قضايا الفن فبدلاً من أن نبحث كيفية توظيف الفن بأنواعه المختلفة في نهضة المجتمع وتقدمه، لا زلنا نتحدث عن حُرمة الرسم والتصوير والنحت والموسيقى وغيرها، وكأن المُحرّم هو هذه الفنون بحد ذاتها وليس عبادة ما يتم رسمه وتصويره ونحته من تماثيل وصور وغيرها. ومنها قضايا تصنيف الناس إلى مؤمن وكافر وفاسق ومبتدع ورافضي، فبدلاً من أن ننشغل بتزكية الأنفس وترقية العقول وتهذيب السلوك وتطهير القلوب وهداية الناس، لا زلنا مشغولون بالوقوف على أبواب الجنة لنمنع غيرنا من دخولها ونحجب رحمة الله تعالى عمن يشاء من عباده فنزج بهم في جهنم وكأن الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً يحتاج إلى تزكيتنا فيمن يدخل الجنة أو النار.

وإذا ما بحثنا عن أسباب انتشار ثقافة التحريم التي تميل إلى التشدد في الأحكام الشرعية والميل إلى التطرف فيها باعتبار التشدد والتطرف والغلو أسلم للدين وأقوى للإيمان ، فإن الباحث السعودي (عبدالله العتيق) يرجع ذلك في كتابه (ثقافة التحريم) إلى عدة أساب منها ما أسماه بالظاهرة الفهمية للنص (الفهم الحرفي للنصوص الشرعية)، وغياب الادراك العللي للأحكام الشرعية (عدم الأخذ بعلل الأحكام الشرعية عند الفتوى)، وتعطيل المقاصد الشرعية (عدم اعتبار مقاصد الشريعة الإسلامية الكلية عند الفتوى)، والجمود البحثي الفقهي (جمود البحث الفقهي وعدم التجديد في أصوله)، وتعطيل الظرف الديني (عدم مراعاة تغير الزمان في الفتوى). ويضيف آخرون أسباباً أخرى لثقافتي التكفير والتحريم منها: حديث الفرقة الناجية وفهمه بطريقة مغلوطة تجعل كل جماعة ومذهب تحتكر الحق والصواب دون غيرها، وتبسيط الأمور في ثنائية قطعية لا تقبل الوسطية ما بين الحق والباطل حتى داخل الدائرة الإسلامية الواحدة. وعدم التفرقة بين النص الشرعي الإلهي واجتهاد العلماء في فهم النص وكأنه نص شرعي وليس اجتهاداً بشرياً في فهم النص. وغياب فقه الموازنات والأولويات التي يفرّق بين المهم والأهم وبين الجوهري والثانوي.

وخطورة تحريم ما أباحه الله تعالى بالاعتماد على فتاوى علماء تيار ومذهب إسلامي واحد دون الأخذ بالاعتبار آراء وفتاوى بقية علماء المسلمين، هو تضييق على حياة الناس وتنفيرهم من الدين الإسلامي السمح. فثقافة التحريم والتكفير ما أن تنتشر في مجتمع ما حتى تنزع منه الرحمة والرفق واللين والتسامح والوسطية والاعتدال وتُغرس فيه القسوة والغلظة والشدة والتعصب والتطرف والغلو، وحتى تقتلع منه روح الحوار المتبادل لتحل محلها روح الإقصاء المتبادل، وحتى تستأصل منه ثقافة التعايش السلمي لصالح ثقافة الصراع العنيف التي تفكك المجتمع وتدمره ، فلا خيار أمامنا بعد أن عرفنا خطورة تلك الثقافة سوى أن نُعيد إحياء ثقافة التسامح والتراحم والوسطية والاعتدال والحوار والتعايش السلمي في مجتمعات الأمة الإسلامية من أجل مستقبل أجيالنا القادمة . 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد