وكالة سوا الإخبارية

167-TRIAL- سأتوقف في هذا المقال أمام محاولة تعميم نموذج الضفة على غزة وبالعكس.
من جهة، يحاول معسكر الرئيس تعميم نموذج السلطة في الضفة الغربيّة على قطاع غزة، ويقدمه باعتباره النموذج الناجح، ويتجاهل الضرر الفادح الناجم عن التخلي عن معظم أوراق القوة والضغط، وخصوصًا خيار المقاومة الذي من دونه لا يمكن استعادة الحقوق وتحقيق الأهداف، حتى بحدها الأدنى. ويظهر ذلك من خلال استمرار الرهان على " اتفاق أوسلو" والتزاماته واعتماد إستراتيجيّة الانتظار والبقاء والتكيف مع الاحتلال حتى بعد أن تخلت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة عن الالتزامات الإسرائيليّة فيه، ومضت في ابتلاع الأرض وتهويدها واستيطانها، وخلق أمر واقع جديد يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن عمليًا. 
فشل نموذج الضفة ليس سياسيًا فقط (في إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على الأرض، وهذا هو المعيار الأساسي للحكم له أو عليه)، بل فشل كذلك في إقامة نظام يحفظ حقوق الإنسان وحرياته، ويضمن إجراء الانتخابات الدوريّة المنتظمة، ويحمي التعدديّة والمنافسة، ويوفر المساواة والعدالة الاجتماعيّة وتكافؤ الفرص، وتأمين الاقتصاد الوطني وتوفير عوامل الصمود، بل بدأت بعد أوسلو وبسببه عمليّة الفصل بين القضيّة والأرض والشعب، إذ أصبحت القضيّة قضايا والأرض قسمت إلى (أ، ب، ج)، وإلى القدس والضفة وقطاع غزة، والشعب يكاد أن يتحول إلى شعوب، خصوصًا بعد الانقسام السياسي والجغرافي. كما تعمقت تبعيّة الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي وقضى النهج الليبرالي الجديد واستمرار التمسك بـ"اتفاقيّة باريس" على أي فرص بالتحرر الاقتصادي.
ومن جهة أخرى، تحاول " حماس " نقل نموذج غزة في المقاومة وغيرها إلى الضفة كما طالب محمود الزهار، الذي أشار لو أن هذا تحقق في الحرب الأخيرة لكان سيؤدي إلى تحقيق انتصارات تاريخيّة.
على الرغم من أن الشعب واحد والقضيّة واحدة والعدو واحد، وأن الحق المقدس بمقاومة الاحتلال بكل أشكال المقاومة لا جدال فيه، وأن الضفة لو لم تكن مكبلة من السلطة والتزاماتها لكان يمكن أن تنصر غزة بشكل أفضل مما فعلت؛ إلا أن هذا لا يتعارض مع ضرورة الاعتراف بأن ظروف غزة تختلف اختلافًا بيّنًا عن ظروف الضفة من عدة نواحي، منها: جغرافيّة غزة ومساحتها وكثافتها السكانيّة، والفصل الجغرافي بين الضفة والقطاع منذ النكبة ومن ثم بعد ذلك بفعل إسرائيل، إضافة إلى جوار غزة لمصر التي كان يحكمها نظام ضعيف في آخر عهد حسني مبارك ما سمح بالأنفاق وتهريب السلاح، ثم ظهور "الربيع العربي" وصعود الإخوان المسلمين – حلفاء "حماس"- إلى الحكم في مصر، ما مكنها من توظيف الأنفاق بشكل كبير للحصول على الأسلحة والصواريخ إلى أن سقط حكم الإخوان. 
كما أن هناك عاملًا مهمًا جدًا لإظهار اختلاف الظروف بين الضفة وغزة يظهر في تفاوت عمق الأطماع والأهداف الاستعماريّة الاستيطانيّة الصهيونيّة إزاء كل من الضفة وغزة. هذا العامل أدى إلى "الانسحاب" من غزة تحت وطأته أولًا وأساسًا، وثانيًا جرّاء المقاومة وما أدت إليه من تحميل إسرائيل تكاليف باهظة أكبر من الفوائد التي جنتها من استمرار الاحتلال. فالضفة مستهدفة بشكل أكبر بكثير من القطاع، لذلك لن تسمح إسرائيل ولا الأردن بنقل تجربة الصواريخ والقذائف من غزة إلى الضفة، كما أن القطاع لطالما سعت الحكومات الإسرائيليّة للتخلص منه؛ لذلك انسحبت منه لتسهيل تعميق احتلال الضفة وقطع الطريق على إقامة دولة فلسطينيّة على الأراضي المحتلة العام 1967.
لم تكن القوات الاحتلاليّة الإسرائيليّة لتنسحب من غزة من دون مقاومة، ولكن المقاومة وحدها لا تفسر هذا "الانسحاب"، ومن دون مقاومة كان من المستحيل إزالة مستوطنات غزة على يد شارون القائل بأن "نيتساريم" لا تقل أهميّة عن تل أبيب، ولكن لولا خشية شارون من احتمال فرض حل على إسرائيل لا ترغب به ولا يحقق كل أهدافها وسعيه لفصل الضفة عن غزة ومنع قيام دولة فلسطينيّة لما انسحب من قطاع غزة. 
كما عانى نموذج السلطة الذي أقامته "حماس" في غزة من الحصار والعدوان، وقام بانتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان وحرياته، والمساس بالحريات الشخصيّة، ومحاولات فرض نموذج بعينه للحكم من دون مشاركة الأطراف الأخرى، ومن دون مساءلة ولا محاسبة؛ ما أدى إلى وضع سيء جدًا يعيشه القطاع.
يمكن التساؤل بشدة حول جدوى إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون كإستراتيجيّة لتحرير فلسطين أو حتى لتحرير الأراضي المحتلة العام 1967 في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى لصالح إسرائيل ومن يدعمها، ومع فقدان العمق الإستراتيجي العربي والإقليمي والدولي. والدليل أن التهدئة مع الاحتلال واستخدام المقاومة للدفاع عن النفس والسلطة أكثر مما هي إستراتيجية للتحرير وسم السنوات الماضية، ما يعني أن المقاومة المسلحة تنفع في هذا الظروف في قطاع غزة كإستراتيجية دفاعية، فصمود غزة وانتصارها أظهر جدوى مقاومة غزة وأنفاقها وصواريخها وقذائفها، ومنع احتلال غزة.
في هذا السياق يجب أن نكون أمناء ونقول إن "حماس" لو كانت تريد إقامة إمارة إسلاميّة في غزة لعقدت صفقة مع إسرائيل تحفظ فيها سلطتها مقابل وقف المقاومة، وحالت دون العدوان المتكرر على غزة، ولما سعت للحصول على صواريخ وصلت إلى حيفا وما بعد حيفا. فـ"حماس" الضعيفة القادرة على السيطرة على قطاع غزة وضمان الهدوء على الحدود مصلحة إسرائيليّة، ولكن "حماس" تنظر إلى سيطرتها على غزة كمرحلة أولى على طريق تحرير فلسطين، لذلك رفضت الاعتراف بشروط الرباعيّة التي لو وافقت عليها لفُرِش السجاد الأحمر لها في البيت الأبيض. 
كما رفضت "حماس" المفاوضات المباشرة مع أن تصريحات موسى أبو مرزوق الأخيرة تعطي إشارة عن استعداد الحركة للتفاوض حتى لو كان على غزة وحدها، وكأن ما يمنع التفاوض موافقة "حماس" أو رفضها، وليس الثمن الذي يجب أن تدفعه حتى تقبل إسرائيل التفاوض معها، وهو قبول شروط اللجنة الرباعيّة، وما يمكن أن يؤدي إليه من تكرار نموذج أسوأ من أوسلو.
تكمن المأساة في أن حديث أبو مرزوق عن التفاوض من فصيل مع أن هذه قضيّة وطنيّة أكبر من الفصائل جميعًا؛ جاء بعد وصول المفاوضات الثنائيّة إلى طريق مسدود، لدرجة أن معظم المفاوضين أصبحوا مقتنعين بأن هذا الطريق لا ينفع، بل ضار جدًا بالقضيّة الفلسطينيّة.
قد يقول قائل بأن أبو مرزوق يهدف من وراء تصريحه ابتزاز "فتح" باسم الاستجابة للضغط الشعبي حتى تقبل بما تريده "حماس" من التزام برواتب الموظفين و فتح الحدود والمعابر والحصار، بدليل أن هناك أكثر من تصريح صدر عن "حماس" بعد تصريح أبو مرزوق تؤكد أنها لا تزال ترفض التفاوض مع إسرائيل.
تكمن مشكلة "حماس ليس" في أنها تريد إمارة في غزة، وإنما في أنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين، وجزء صغير من مشروعهم الذي يمتد على امتداد العالم الإسلامي؛ الأمر الذي يجعل المشروع الوطني الفلسطيني ليس له الأولويّة. فالمشروع الإسلامي هو الأصل والمشروع الوطني الفلسطيني هو الفرع؛ لذلك على "حماس" أن تغلب كونها جزءًا من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة على كونها امتدادًا لجماعة الاخوان المسلمين، وهذا يكون من خلال إقامة مسافة بينها وبين الجماعة تتيح لها حريّة الحركة وعدم التدخل بما جرى ويجري في سوريا ومصر وليبيا والعراق، لأن القضيّة الفلسطينيّة تتطلب ذلك، بينما مصلحة الإخوان المسلمين تدفع باتجاه مغاير.
إن أي خيار محكوم عليه بالفشل ما لم يبتعد المعسكران المتنازعان عن المصالح الخاصة والمحاور العربيّة والإقليميّة المتجاذبة، وما لم يكن انعكاسًا لشراكة سياسيّة كاملة تؤمن مشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي وتحفظ الحقوق وتضع إستراتيجيات للمقاومة والمقاطعة والتحرك السياسي وكل شيء. إستراتيجيّات تستنهض كل عناصر القوة والضغط، وتأخذ الظروف الخاصة لكل تجمع فلسطيني بالحسبان، فما هو مناسب من أشكال النضال والعمل في الضفة مختلف عما هو مناسب في غزة أو 48 أو الشتات، وتسعى لتغيير ميزان القوى بما يسمح بتحقيق الأهداف الوطنيّة.
Hanimasri267@hotmail.com


41

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية