استثمر نتنياهو، وكذلك كل الجوقة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، "موسم الحرائق" لكي تغطي وتطفئ الحرائق التي كادت تشتعل في إسرائيل جرّاء فضائح الغواصات، وغيرها من "المشتريات" التي تبين أنها ـ ليس فقط غير ضرورية ـ وإنما "مقحمة عنوة" في قوائم الاحتياجات الإسرائيلية وبشبهات كبيرة حول حالات فساد حقيقية.
ولأن حالات الفساد تحولت في الآونة الأخيرة إلى ظاهرة مستشرية في الواقع السياسي الإسرائيلي، من حيث تركزها في المجتمع السياسي، ولأن انحدار "القيم" بالمعنى الإسرائيلي الخاص للكلمة قد وصل إلى معدلات قياسية وغير مسبوقة، فقد باتت ردود الأفعال الشعبية والاجتماعية منتظرة ومرجحة، ومن الممكن أن تؤدي عند درجة معينة إلى "انفجار" اجتماعي أكبر من أن يتمكن المجتمع السياسي من خنقه أو تطويقه وإبقائه تحت السيطرة وتحت رقابة هذا المجتمع.
في أغلب الظن أن مثل هذا الاستثمار كان سيتم حتى بدون استشراء ظاهرة الفساد التي تجتاح المجتمع الإسرائيلي، لكن قدرة الجوقة على تحقيق "نتائج" حقيقية هذه المرّة كانت ستكون متواضعة بدون هذا السُعار الذي أصاب إسرائيل في التحريض على الشعب الفلسطيني وبهذه العنصرية السافرة والتي تكشف وتعكس فضيحة أعمق من ظواهر الفساد نفسه.
وبالعودة إلى السُعار الإسرائيلي ـ على المستوى الرسمي وعلى مستوى وسائل الإعلام في أغلبها ـ فإن ترافق هذا السُعار مع مفردات ومصطلحات وتعبيرات بعض قادة المتدينين والتي تدل على لوثة دينية تثير الشفقة وتعبر عن الخواء والانحطاط لديهم... أن ترافق تعبيرات هذه "اللوثة" مع السُعار الرسمي إنما هي النتيجة التي أرادها اليمين المتطرف في إسرائيل.
اليمين الإسرائيلي يجد نفسه أمام حالة خراب شامل في المؤسسات السياسية، وهو لا يستطيع ـ على ما يبدو ـ أن يغطي على هذه الحالة إلاّ عَبر تجييش المجتمع الإسرائيلي وراء "معارك" "قومجية" ووراء تهويشات أمنية علّها تخفي حالة التردي، وسيطرة الفساد على كل مناحي الحياة السياسية في إسرائيل.
ليس لدى اليمين في إسرائيل غير فزّاعة الأمن لطمس الجمر الذي يقبع تحت رماد الفساد فيها، وليس لدى اليمين المتطرف في إسرائيل سوى "زجّ" المجتمع الإسرائيلي في معارك وهمية بهدف إبقاء هذا المجتمع في أعلى حالات التوتر والتحفُّز "لمحاربة" كل ما هو فلسطيني وكل من هو فلسطيني.
على كل حال وبغض النظر عن السذاجة والغباء الذي ظهر عليه بعض الفلسطينيين والعرب من خلال (التشفِّي) بإحراق منازل الإسرائيليين كردّة فعلٍ على تحريض اليمين المتدين والمتطرف في إسرائيل، وبغض النظر عن انجرار بعض هؤلاء وراء مشاعر غرائزية أكثر مما هي مواقف سياسية أو فكرية، إلاّ أن الطابع التحرري والإنساني للقضية الوطنية الفلسطينية هو الذي غلب على المشهد في نهاية المطاف.
سقط بصورة مدوية منطق تفسير الحرائق "بالغضب الإلهي" بسبب قانون الأذان، أو بسبب العمل في أيام السبت، على طرفي معادلة إيجاد تفسير ديني للأحداث، وسقط الطرح العنصري بعد أن امتدت الحرائق إلى مناطق كثيرة في الضفة، وسقط منطق التحريض وتهاوى بالكامل بعد مشاركة الدفاع المدني الفلسطيني في إطفاء الحرائق، وبعد مشاركة مشرّفة أبلى من خلالها رجال الدفاع المدني بلاءً شديداً عَبَّرت عنه الأوساط الإسرائيلية نفسها.
وللمرّة الثانية يعترف الجانب الإسرائيلي بكفاءة رجال الإطفاء الفلسطينيين على مستوى المهنية والشجاعة بل وعلى مستوى رُقيّ ونجاعة التجهيزات.
هذه المشاركة كان وقعها كالصاعقة على محاولات مشعوذة الحالة السياسية في إسرائيل وعلى كل الجهود المثابرة والمنظمة لشيطنة كل ما هو فلسطيني عند أهل اليمين وعتاة العنصريين وطواغيت الإعلام الإسرائيلي.
لقد آن الأوان للحديث بصورة غير مواربة مع بعض "أبطال" إعلام التواصل الاجتماعي عندنا الذي يصرون على خدمة إسرائيل وعلى خدمة اليمين المتطرف فيها من خلال "مواويل" التشفِّي بحرق منازل الإسرائيليين.
يكفي ويزيد هذا الغباء الذي من خلاله يُصرّ البعض على الانجرار وراء الحملات الإسرائيلية المنظمة لتحويل هذا الصراع إلى صراع ديني بدلاً من صراع وطني تحرًّري، وإلى تحويل القضية الوطنية بل وتقزيمها إلى قضية صراع بين الإسلام واليهودية، الإسلام كما يراه البعض واليهودية كما تراها حاخامات القتل والعنصرية فيها.
يكفي تقديم الهدايا للعنصريين في إسرائيل، ويكفينا هذا الهذيان الذي يحاول البعض منا وفينا أن يُروَّج له على أساس معادلة: [كلّما تشدّدنا وكلّما تطرَّفنا حقّقنا لفلسطين].
الحقيقة أن هذه المعادلة بالذات هي معادلة إسرائيلية بامتياز، والحقيقة أنه كلّما أخلصنا لقضية التحرُّر والديمقراطية والبعد الإنساني ضربنا الأفكار الصهيونية والأفكار اليمينية على وجه الخصوص والتحديد في مقتل. فمنذ الكنعانية الأولى وحتى يومنا هذا لم يعرف الشعب الفلسطيني إلاّ كشعب مسالم محب للإنسانية ومحب للحق والعدالة.
صحيح أن هذا الشعب وصف بالعناد وبالرجولة والقسوة، لكن ذلك كان دائماً في وجه الغزاة والطامعين في أرضنا وبلادنا. ومنذ ملحمة الفلسطينيين مع الهكسوس وحتى يومنا هذا خاض الشعب الفلسطيني كل معاركه بشرف ورجولة دفاعاً عن حقوقه وأرضه ومقدساته مثله مثل شعوب أمته العربية التي ما حملت للعالم غير القيم الإنسانية والتحرُّرية.
لم نكن في يومٍ من الأيام سوى شعب يحب الحياة ويحب بلاده وملتصق بأمته الكبرى وبكل ما هو بشري وتحرُّري وإنساني عميق، ورسالتنا للإسرائيليين على الرغم من كل الظلم الذي نلقاه على أيديهم هو رسالة التعايش والسلام وإحقاق الحق والعدل والإنصاف. أما التشفِّي بإحراق منازل الإسرائيليين فليس فيه من فلسطينيتنا شيء، ومن يعتقد عكس ذلك فهذا "حقه"، ولكن بات من حقنا ومن واجبنا أن ننبهه الى عقم وخطورة ما ينطوي على هذا الاعتقاد عندما ينتقل من دائرة المشاعر الغرائزية إلى اعتبار ذلك مواقف سياسية وفكرية تخدم قضيتنا وتعبر عن شعبنا وإنسانيته العميقة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد