تحظى تركيا بموقع إستراتيجي مميز، فعدا عن أن الجغرافيا السياسية منحتها موقعاً يتخذ من قارتين مكاناً له، آسيا وأوروبا عبر جزء صغير من استانبول، والمضيق الذي يفصل بينهما، مضيق البوسفور، بينما مضيق الدردنيل يشكل الحدود الجنوبية بين القارتين، هذان المضيقان يمنحان تركيا موقعاً استراتيجياً مكّناها من الولوج إلى حلف الأطلسي بالنظر إلى الأهمية البالغة لهما في مجال الملاحة العسكرية عوضاً عن الملاحة التجارية، خاصة في ظل الحرب الباردة بين الشرق والغرب في زمن سابق.
غير أن هذا الموقع الاستراتيجي الممتاز لم يمنحها فرصة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يعود ذلك لأسباب عديدة من وجهة نظر معظم دول أوروبا خاصة الدول المؤثرة في الاتحاد كألمانيا وفرنسا، ذريعة ذلك، الخلاف التاريخي بين تركيا وإحدى دول أوروبا وهي اليونان على خلفية نجاح تركيا في تقسيم جزيرة قبرص، إلاّ أن هناك أسباباً أكثر أهمية من هذا السبب بالكاد يتم الإعلان عنها، فتركيا دولة جلّ مواطنيها من المسلمين بتعداد 75 مليون نسمة، وإذا ما عرفنا أن البرلمان الأوروبي يتكون من نواب من كل دولة حسب تعداد مواطنيها، وأن عدد سكان تركيا يفوق عدد أية دولة في الاتحاد الأوروبي، فإن لتركيا سيكون النصيب الأوفر في التأثير على القرارات التشريعية في الاتحاد الأوروبي، يضاف إلى ذلك التخوف المبرر من غزو شمال تركيا لاقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، خاصة الصغير منها التي استفادت من انضمامها للاتحاد الأوروبي بتوفير عمالتها للدول الصناعية الكبرى في الاتحاد.
مستشارة ألمانيا انغيلا ميركل لم تذكر وهي تستعيد أسباب رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الأسباب التي ذكرناها، بل قالت إن سبب رفضها يعود إلى قرارات البرلمان التركي برفع الحصانة عن النواب الأكراد، وعدم استقلالية القضاء التركي، خاصة بعد الانقلاب الفاشل الأخير، إضافة إلى أن تركيا تضع قيوداً كبيرة على وسائل الإعلام، خاصة بعدما اتخذت قرارات عديدة بإغلاق مؤسسات إعلامية كبيرة، والقرار الأخير بإلغاء وقف عقوبة الإعدام الذي كانت تركيا قد اتخذته تقرباً من عضويتها للاتحاد الأوروبي.
إلاّ أن أمر انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، أخذ أبعاداً سلبية جديدة بعدما صوت البرلمان الأوروبي قبل ثلاثة أيام لصالح تعليق المفاوضات لانضمام تركيا للاتحاد، ومع أن التصويت ليس إلزامياً، إلاّ ان النسبة العالية من التصويت تشير  الى أن معظم دول الاتحاد تقف ضد مجرد التفاوض مع تركيا بهذا الشأن، مع ذلك ثارت ثائرة الرئيس التركي اردوغان، مشيراً إلى أن هذا التصويت لا قيمة له، وان تركيا غير معنية الآن بالانضمام الى الاتحاد، مهدداً بإغراق أوروبا بالمهاجرين، خاصة السوريين منهم، ما وفر للمستشارة الألمانية ميركل رداً تضمن ضرورة أن تتمسك تركيا بالاتفاق الذي تم مع الاتحاد الأوروبي بشأن تنظيم عملية الهجرة، بما يضمن عدم السماح للمهاجرين بدخول الاتحاد الأوروبي عبر تركيا، وان إلغاء هذا الاتفاق سيضر بالطرفين، الاتحاد وتركيا على حد سواء!!
يأتي الموقف المتصلب من قبل اردوغان ضد أوروبا واتحادها، حسب عديد من المحللين الى عدة عوامل، في طليعتها توجهات تركية جديدة في اطار صفقات أدت إلى تحالفات جديدة، خاصة بعد الخلافات المتزايدة مع إدارة اوباما حول المسألة السورية والموقف من الأكراد تحديداً، ونجاح اردوغان ب فتح صفحة جديدة مميزة مع الاتحاد الروسي، وإعادة العلاقات الجيدة مع إسرائيل، ومفاوضات جدية لفتح تبادل تجاري واسع مع الصين، وكأن هذه التحالفات المستجدة دعمت موقف تركيا من الاتحاد الأوروبي الذي يرفض انضمامه إليه منذ العام 1963 عندما كان اسمه «الوحدة الأوروبية».
تهديد أردوغان بإغراق أوروبا بالمهاجرين، بالغ الجدية والخطورة بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، وهو يتخذ مسألة المهاجرين «درعاً» يختبئ وراءه للضغط على الاتحاد لغض النظر عن الأسباب العديدة التي يمتنع الاتحاد عن ضم تركيا إلى عضويته، ومن غير المتوقع أن يلجأ أردوغان لتنفيذ وعيده بانتظار ما قد يشكله ذلك من ضغط على الاتحاد الأوروبي لمنح تركيا مميزات عديدة إضافية كدولة تحظى بالرعاية، وهو أمر سبق لتركيا أن رفضته إذا كان ذلك مقابل إلغاء المفاوضات لضم تركيا إلى الاتحاد كدولة عاملة، أما الآن فقد يقبل أردوغان بذلك دون أن يشكل هذا الأمر إلغاء للمفاوضات، بل مجرد تعليق مؤقت إلى حين وقت أكثر ملاءمة لاستئناف المفاوضات حول ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد.
وستبقى الساحة السورية هي ميدان التأثر والتأثير على هذا الملف، خاصة بعد تسلم الرئيس الأميركي المنتخب ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، وتأكيد سياسته المعلنة حول التفاوض مع روسيا على الساحة السورية، الأمر الذي يوفر لتركيا فرصة أفضل في التأثير على مجريات الأوضاع على هذه الساحة!!


Hanihabib272@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد