270-TRIAL- ما أن يهدأ غبار خيول المعارك حتى تبدأ حالة التأمل والقراءة لما حدث، فدائما بعد الحروب ليس كما قبلها، إذ إن الصواريخ والدبابات عادة ما تطيح بنظريات قديمة، وبحجم الحدث تكون التغيرات والنظريات التي تستولد، فأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية التي كلفت خمسين مليون قتيل من شبابها وثمانين مليون جريح ليست أوروبا بعد الحرب في كل شيء، ليس فقط في الأنظمة السياسية، بل أعيد صياغة منظومة قيمها الإنسانية من جديد وأعيد صياغة برامجها السياسية التي ضمنت ألا تحترق القارة مرة أخرى وأن الإنسان أغلى ما تملك على الإطلاق وأعيد بناء الثقافة على هذا المعيار.
هذا ليس للمقارنة مع ما حدث من عدوان على غزة ، إذ لا تشابه بينهما، ففيما كانت الحرب العالمية الثانية زائدة، هنا كانت حرب بين الاحتلال وحركات التحرر وهي جزء من الصراع مع المحتل تميزت العلاقة معه بالصدام منذ أن أقام دولته على أنقاض الشعب الفلسطيني الذي تحول بين عشية وضحاها إلى لاجئ وطريد. ولكن المقارنة فقط هنا بالقراءات ما بعد الحرب، وإذا ما تطلب الأمر إعادة صياغة الفكر السياسي الفلسطيني بما يتناسب وأدوات الصراع وضمان استمرار جذوته حتى الحصول على الاستقلال، فمشوار التحرر طويل والذي امتد على مساحة ما يقترب من سبعة عقود يجب أن يدعونا للتأمل الآن.
وأسئلة التأمل هنا كثيرة على نمط : هل كان بالإمكان اختزال الزمن أم أن الأمور جرت في سياقاتها الطبيعية؟ وهل أدواتنا المستخدمة كانت صالحة للسير بها في المسارات المتعرجة لحركة التاريخ، أم كانت هناك وسائل وبرامج أكثر نجاعة؟ هل ما تحقق يكفي لإقناع الشعب الفلسطيني بجدارة الخيارات والأحزاب القائمة عليها أم كان بالإمكان تحقيق أكثر؟ وماذا عن خلافاتنا وما علاقتها بأزمتنا الوطنية والإنسانية وتداعياتها في قطاع غزة ؟ وهل ما يحدث في قطاع غزة من جرائم متكررة ترتكبها إسرائيل تأتي في سياق طبيعة الاشتباك القائم مع المحتل أم أن هناك تسخينا زائدا؟ وأسئلة كثيرة أصبح من الواجب وضعها على طاولة التشريح السياسية.
هناك أزمة بلغت حد الاختناق تتطلب البحث عن آفاق، تلك الأزمة استنسخت مجموعة من الأزمات على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الإنساني في غزة وكثيرا من الأزمات الفرعية التي تعتبر تفاصيل في العنوان الأكبر، وهو أن لدينا مشروعين متضاربين حد العظم: مشروع السياسة، ومشروع السلاح، هذا التضارب أحدث شللا كبيرا في الحالة الفلسطينية وحال دون تقدمها وهو ما يستدعي نقاشه بهدوء وبعقل بارد، وهذا التعارض يحول دون فكفكة كافة الألغام التي تنفجر بين حين وآخر في حقول العلاقة بين حركتي "فتح" و" حماس " وحقل المصالحة على شاكلة الرواتب وعودة السلطة وإغلاق المعابر، وكل هذه الفروع هي انعكاس لأزمة متغلغلة في الجذور .
في إطار هذا التناقض بين مشروعين، مشروع ألقى سلاحه بعد أن خاض معارك القتال وبدأ في السياسة معترفا بإسرائيل وموقعاً معها اتفاقيات تعيد صياغة العلاقة بعيدا عن السلاح وتحل معها بالمفاوضات وإن لم يتحقق الحل، لكن الاتفاقيات أصبحت جزءا من الالتزامات، ومشروع آخر لا يعترف بالاتفاقيات، معتبرا أن الكفاح المسلح هو الحل الوحيد لإنهاء الاحتلال.
شاءت الأقدار أو شاء الفاعلون في لعبة السياسة أن يصطدم المشروعان قبل سبع سنوات هنا في غزة حين رأت القوى المسلحة أن وجود السلطة يمنعها من التحرير فطردتها من غزة لتأخذ فرصتها لتجربة مشروعها الذي تخلله ثلاث حروب كانت نهاية الثالثة أن السلاح يبحث عن السياسة، وكان درسها الأبرز أن الصراع مع إسرائيل بحاجة إلى مفاوضات، وأن هناك قضايا لا تمر إلا بموافقة الإسرائيلي، وفي لحظة ما بدا أن موافقة إسرائيل على المفاوضات هو بحد ذاته إنجاز.
الأزمة ليست هنا، فالتاريخ هو المعمل الهائل لتجارب السياسة والسلاح، والصراع مع إسرائيل مركب جدا بعد هذا الانقسام البرنامجي، ولكن السؤال الأبرز الذي يؤرقنا ونحن نطالب هنا في غزة بتطبيق اتفاق المصالحة وعودة حرس الرئيس للإسراع بتسهيل حركة المعابر لمواطني قطاع غزة وبسط مسؤولية السلطة فيها، هل يمكن عودة السلطة في ظل هذا التعارض بين المشروعين.
عودة السلطة إلى غزة يعني عودة الالتزام بالاتفاقيات ومنها اتفاقية المعابر، وينسحب ذلك على كثير من القضايا كإعادة بناء المطار وربما الميناء، ولكن الحكم الحقيقي في غزة هو لحركة حماس التي قالت انسحبنا من الحكومة وليس من الحكم، وهذا يتم خارج تلك الاتفاقيات، وأن جزءا من الاتفاقيات بل أهمها هو تحديد نوع وكم السلاح الموجود بغزة، فهل يتوافق ذلك مع التزامات السلطة؟ فماذا لو طلب الإسرائيلي فتح هذا الملف؟ ومن الواضح أن عضوي الكنيست شاؤول موفاز ومئير شطريت تحدثا حول هذا الموضوع رد عليهم رئيس حركة حماس بقطاع غزة السيد هنية بأن هذا خط أحمر.
ماذا لو طلبت إسرائيل من السلطة الالتزام ببند السلاح وسحب الأسلحة حتى تلتزم بواجباتها في الاتفاقيات؟ وقد كان هذا جزءا من المفاوضات في القاهرة عندما طلب الوفد الفلسطيني موافقة إسرائيل على بناء الميناء والمطار كان رد الإسرائيلي بأن هذا وارد في اتفاقيات بحاجة للتبادلية ومن ضمنها السلاح.
إذن نحن أمام معضلة كبيرة، ولم يعد تعارض المشروعين هو في سياق حالة الاختلاف في المؤسسة الفلسطينية، بل أن لكل مشروع أدواته وقناعاته غير القابلة للتراجع، فلا حركة فتح ومؤسسات المنظمة جاهزة لتمزيق الاتفاقيات والعودة لحمل السلاح، ولا القوى المسلحة جاهزة لإلقاء سلاحها والالتزام بالاتفاقيات، ولم نعد نستطيع الاستمرار بأن كل مشروع يغني على ليلاه بمساعدة الانقسام الجغرافي بين الضفة وغزة وكل تلك الفوضى تتم وتحول دون إنجاز التحرر.
وفي هذا الجو من الصعب تصور عودة السلطة، فهذه الأخيرة ليست أشخاصا بقدر ما هي سياسات وأدوات واتفاقيات والتزامات قانونية هي ليست مجرد نوايا وطنية طيبة وانتهى، الأمر بدا أكثر وضوحا بعد هذا العدوان، ولم يكن عجز الأطراف عن تنفيذ اتفاق المصالحة منذ نيسان الماضي حتى اللحظة سوى انعكاس لأزمة التعارض البرنامجي بالرغم من رغبة كل الأطراف بتنفيذ المصالحة، إلا أن الأمر أعقد بكثير، لهذا يبدو كل شيء معقدا ولم تتقدم المصالحة ولم تعمل حكومة الوفاق ولم تصرف الرواتب ولم.. ولم .. المسألة ليست سهلة، الأمر يحتاج إلى نقاش على مستوى الفكر السياسي الفلسطيني والبحث عن حلول وبدائل، ينبغي التفكير بعمق بعيدا عن السطحية، وبصراحة، بعيدا عن النوايا والإجابة على سؤال ماذا نريد وكيف يمكن تحقيقه بعيدا عن ازدواجية تقتل نفسها وتعطل مصالح شعبها، فهل نريد سياسة، أم نريد السلاح؟ وهل بالإمكان دمج المشروعين ليخدم السلاح السياسة لا أن يجهضها؟ أم أنه لا يمكن دمجها بعد الاتفاقيات؟ أسئلة مفصلية بات من الضروري الإجابة عليها حتى نخرج من حالة العبث والتيه وصراع البرامج .. الإجابات لدى السياسيين، ووظيفة الكتاب إلقاء الأسئلة الصعبة ..! 184

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد