2014/09/06
202-TRIAL-
دخلت عليها في بيتها الكائن في العيسوية، كانت وحيدة مع زوجها، البيت فارغ، جميع الأولاد في السجن، لم يبق إلا صورهم معلقة على الجدران، وعندما استقبلتني بكت، كأنها تقول لي: جئت متأخرا، والبيت مخنوق كأنفاسها المرهقة وعلامات التعب الظاهرة على وجهها.
أم سامر العيساوي، وهي التي طلبت منا أن نناديها أم سامر الفلسطيني، المرأة الأم التي لم تر في حياتها سوى السجون ، تتنقل من سجن إلى آخر، ومن محكمة إلى أخرى، ثلاثة أبناء في السجن، سامر ومدحت وشيرين، لم تلتقط نفسها لحظة واحدة، السجن يلاحقها ولا يترك لها مجالا للنوم أو اليقظة.
حكت لي عن المئات من عمليات الاقتحام والمداهمة من قبل جنود الاحتلال، يأخذون الأولاد والبنات، يحاولون إخراس صوت الحرية المنتشر بكثافة في كل أركان البيت، في غرفه، وكتبه وبراويزه، وفي الصور المعلقة القادمة من التاريخ، منذ جيفارا حتى عبد الناصر وياسر عرفات.
هنا خرابيش شيرين العيساوي المحامية، أوراقها، كمبيوترها الذي دمره الجنود، مشاهد لها في الاعتصامات ومجابهة الجنود، الاعتداء عليها في المحكمة، تحاول أن تحمي أخوتها، صوت صراخ وغضب في هذا البيت المنكوب، ولا زمن هنا تقول أم سامر، فقد سرقوه كما سرقوا أعمار أولادي .
على مدار تسعة شهور من إضراب الأسير سامر العيساوي، حملت والدته كل الكلمات والنداءات، وفتحت أبواب الأرض والسماء والضمائر المغلقة، لقد وصل سامر إلى حافة الموت، منظره وهو على الكرسي المتحرك، جسده الهزيل المشبع بالإرادة والتصميم وهو يواجه سياسة إعادة اعتقال الاسرى المحررين بشكل تعسفي.
كانت أم سامر، ثورة في امرأة، امرأة فلسطينية من القدس ، في نبراتها صهيل الآيات، وغضب النساء والأمهات المفجوعات، تكسر قضبان السجن واحد واحدا، ت فتح أبوابه الموصدة، متيقنة أن الأبناء سيعودون، وسينكسر الظلم والسجان.
لم يلتئم شمل العائلة سوى مرة واحدة ولمدة شهرين فقط، بعد أن انتصر سامر في معركة الجوع الطويلة ، وعاد إلى البيت محمولا على أجنحة القدس وبراقها المقدس، وبعد أن حضنته أمه طويلا طويلا حتى بكت السماء، هو يقينها وإيمانها بان السجن مرحلة مؤقتة يجتازه الأحرار بدمهم ولحمهم ومعاناتهم، ويصلون إلى البيت أحياء أو شهداء، ولكنهم يصلون.
أعادوا اعتقال سامر في ظل الحملة الإسرائيلية الاخيرة بإعادة اعتقال الاسرى المحررين في صفقة شاليط وبشكل انتقامي من الشعب الفلسطيني، ومن أم سامر، ومن القدس ومن غزة ، ومن روح الشهيد محمد ابو خضير، واعتقلوا مدحت وشيرين، ولم يبق سوى أم سامر مع زوجها، وشتلة نعنع في فناء البيت ، وهدوء حار في الشارع، يوحي بأنه كانت هنا معركة وليل وأقدام محتلين، وصلاة مذبوحة في الأقصى ، وصوت أجراس كنيسة تطل من دم المسيح.
هنا ظلال مدحت، ملابسه، حذائه، ذكرياته المتقطعة، بقايا تحطيم وتكسير في غرفة النوم وعلى الشباك والأبواب، وهنا كومة من الأدوية لسامر الذي لم يشف بشكل تام بعد إضرابه المفتوح عن الطعام، وهنا العيسوية، انتفاضة الناس، الأولاد يتصدون للجنود والمستوطنين الحاقدين وللسياسة العنصرية والتهويدية، والتي يمارسونها في القدس ضد الأرض والمقدسات، وضد التاريخ والهوية واللغة العربية .
انتفاضة صامتة في القدس كما تقول الصحف الإسرائيلية، جغرافيا الخوف، تقسيم المدينة، الشعارات المتطرفة والحاقدة ضد العرب، عصابات المستوطنين التي تجوب المدينة تحت حراسة الجيش، الخشية الإسرائيلية من بركان ينفجر في القدس، والدعوة إلى إغراق المدينة برجال الشرطة والاستخبارات وبقوانين الابعاد وغيرها.
هم أولاد القدس، الذين اعتقل منهم 600 شخص منذ شهرين، تعذبوا في المسكوبية، ولا زالوا يرمون حجارتهم باتجاه جنون دولة إسرائيل التي لم تستطع منذ68 عاما من احتلال أسوار القدس ودخول أبوابها السبع، دون رجم وغضب وآيات نازلات صاعدات.
أم سامر العيساوي، وحيدة في البيت الآن، ولكن قلبها مزدحم بالقدس، وشوارعها، أزقتها، أسواقها، حكاياتها الأولى والمتتالية، شهوة الحرية والسلام وهي تفيض من وجهها، نظرتها العالية، خطواتها الثابتة، امرأة تستعيد البعيد، تستفزك، تمد يدها، تعصر السماء.
اشتاق الى طلة أولادي
إلى فجر بلا جنود
قمر آخر
يبتسم... وينادي 282
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية