عندما نظم هرتزل المؤتمر الصهيوني الشهير (بازل) خلال عام 1897 ، للإعلان رسميا عن الهدف الكبير لليهود بتأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية ، دَونَ هرتزل في مذكرته الشخصية، بعد هذا انتهاء المؤتمر ، العبارات التاريخية :"إذا أردت أن ألخص مؤتمر بازل بكلمة تجنبت الإعلان عنها للجمهور، سأقول أن في بازل ، أسست الدولة اليهودية ، وإن قلت هذه الكلمة اليوم و بصوت مرتفع سيكون رد الفعل ضحك عالمي ، لذا أقول إن لم يكن لنا دولة خلال 5 سنوات ، بالتأكيد سيكون لنا دولة بعد 50 سنه ، والكل سيعلم بذلك."
و قد مرت السنوات و تغيرت الظروف السياسة في الشرق الأوسط لصالح اليهود و تحققت بالفعل رؤية هرتزل و صدق بوعده لليهود ، حيث تم إعلان و تأسيس دولة إسرائيل خلال عام 1948، أي بعد مؤتمر بازل بحوالي 51 عام ، بفارق بسيط عن توقعات هرتزل، يبلغ عام واحد فقط .
إن نجاح هرتزل بتوقع المدة الزمنية التي احتاجها اليهود لإنشاء دولتهم ،يدل على أن اليهود هم أكثر الناس نجاحا في التخطيط الاستراتيجي، وهم يعلمون ما هو هدفهم و كيف يحققون هذا الهدف بناءً على خطة عملية ومدروسة ، فهم لا يتخذون قرارات عشوائية أو يعدون أبنائهم بوعود كاذبة ومزيفه ، الكلمة عندهم لا تنطق إلا نتيجة جهود مبذولة من وراء الكواليس و دراسة وتحليل جديين للواقع.
لذا سبب ذكرى لموضوع قدرة اليهود على التخطيط الجيد و الواقعي، ما هو إلا رغبةً مني بلفت انتباه الشعب الفلسطيني و القادة الفلسطينيين ، بأن اليهود يخططون دائما بالسر و العلانية لخطط إستراتيجية كبيرة ، قد تفاجأ الشعب الفلسطيني وقيادته بأي وقت ، وقد تشكل مرحلة جديدة تشمل لاعبين جدد في الحياة السياسية دون أي إدراك من القادة الفلسطينيين، حول ما يدور في مصنع صناعة القادة الإسرائيلي ، و لا أشك هنا أبداً بأن من ضمن تلك الخطط الإسرائيلية التي لا نعلم خفاياها، يوجد أيضاً خطط سياسية وعسكرية كبيرة لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين بشكل نهائي وكامل و ذلك حسب معايير الأمن الإسرائيلي.
فمن يعتقد أن إسرائيل عاجزة عن إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، و لا تعلم كيف سيكون مستقبل شعبها في الشرق الأوسط ، وما هي طبيعة الدولة المستقبلية للشعب الفلسطيني فهو يكون حينها إنسان واهم وساذج.
لأنه من شبه المستحيل لدولة متقدمة كإسرائيل تمتلك التكنولوجيا الحديثة و أحدث برامج المحاكاة و التنبؤ و التخطيط الاستراتيجي و برامج صنع القرارات الالكترونية ، بأن تعجز تلك الدولة بكل بساطة عن توقع مستقبلها ومستقبل جيرانها خلال 100 عام وليس فقط خلال 50 عام أخرى إلي الأمام .
لذا فإن الأسئلة التي تطرح نفسها بهذا المقال ، هي :
ما هي الخطة الإستراتيجية التي تمتلكها إسرائيل لحسم الصراع مع الفلسطينيين للأبد؟
وهل لدى إسرائيل أجندة زمنية للوصول إلي الاتفاق النهائي ؟
و هل تستخدم إسرائيل في هذه الفترة بالونات اختبار، وتترك الفلسطينيين وحدهم يتخبطون ويتعلمون من تجاربهم، لحين يأتي الوقت المناسب لتعلن عن اتفاقها النهائي للسلام مع قيادة فلسطينية مستقبلية جديدة تتوافق مع شروطها الأمنية؟
فمن يتطلع على الأبحاث التي تقوم بها الجامعة العبرية بإسرائيل و يقرأ الخطوط الرئيسية لخطة إستراتيجية ساهم بها كل من الباحثين ، البرفسور شلومو حسون و الدكتور رامي نصرالله و منشورة عبر الموقع الالكتروني لمركز الشاشه للدراسات الإستراتيجية التابع للجامعة العبرية، تحت عنوان "بين نهر الأردن و البحر المتوسط ، من الخلف للخلف إلي وجها لوجه ، الخطة الإستراتيجية لعام 2050 " ، سيفهم سبب طرحي لتلك الأسئلة، وسيرى بوضوح النوايا التي تحملها إسرائيل حول مستقبل السلام بينها و بين الفلسطينيين، وسيتعرف على الرؤية الإسرائيلية حول رسم الحدود النهائية بين الدولتين و نظرة إسرائيل لمستقبل القدس و أزمة المياه عند الفلسطينيين ، و كيفية تشجيع التعاون المشترك بين الإسرائيليين و الفلسطينيين بالمستقبل البعيد ،خلال عام 2050.
وعند قراءة مقدمة تلك الخطة الإستراتيجية ، سيجد القارئ توضيح من قبل فريق الدراسات الإستراتيجية الإسرائيلي حول رؤيتهم المستقبلية و مدى إيمانهم و اعتقادهم بأن بحلول عام 2050 ، سيكون هناك سلام نهائي بين دولتين مستقلتين ستكونان نموذجا مثالياً لدول الشرق الأوسط حول السلام و التعايش، و أن الحدود بين هاتين الدولتين ستكون مفتوحة، حيث سيتم السماح بحرية حركة العمال ورؤوس الأموال و البضائع ، وسيبقى كل مواطن بدولته ولن يسمح له بالعيش في دولة الأخر إلا إذا قام بتقديم طلب رسمي للهجرة .
ويشعر أيضا فريق البحث الإسرائيلي بالثقة ، بأنه خلال عام 2050 سيكون هناك فوائد سياسية و اقتصادية و اجتماعية لصالح الشركاء نتيجة التعاون المشترك عبر الحدود، الأمر الذي سيجعل السلام دائم ومستمر.
لذا بناءً على ما تم نشره عبر الموقع الالكتروني للجامعة العبرية في قسم مركز الدراسات الإستراتيجية "الشاشه" ، أعتقد أن تلك الخطة الإستراتيجية الإسرائيلية المقترحة لعام 2050 ، هي أكبر دليل على أن إسرائيل تعلم جيدا وبشكل مدروس كيف تتصرف مع القيادة الفلسطينية الحالية بخصوص موضوع المفاوضات.
والتصريحات الإسرائيلية المتكررة حول أنه لا يوجد حاليا شريك فلسطيني للسلام والنقد الإسرائيلي الحاد للرئيس الفلسطيني محمود عباس ، ما هو إلا إشارات واضحة بأن إسرائيل لديها الصبر الطويل لتؤجل الحل النهائي مع الفلسطنييين حتى عام 2050.
و ربما يسأل البعض لماذا اختارت الجامعة العبرية بأن تتوقع حلول السلام خلال عام 2050 بالتحديد و لم تختر على سبيل المثال عام 2020 ؟
أجيب على هذا التساؤل ، بأن الأسباب الرئيسية لتحديد عام 2050 كعام السلام النهائي مع الفلسطينيين والتي استنتجتها بناءً على متابعتي لتصريحات القادة الإسرائيليين وأراء المحللين السياسيين الإسرائيليين التي تنشر دوما عبر وسائل الإعلام الإسرائيلي ، قد تكون ما يلي:
في عام 2050 ، سيكون عمر الدولة الإسرائيلية قد بلغ قرن من الزمن أي أن جذور الدولة الإسرائيلية ستكون تجذرت بأعماق الشرق الأوسط و ستكون حينذاك إسرائيل قد ضمنت بقائها الوجودي.
بحلول عام 2050 ، يتوقع الإسرائيليون أن الجيل الفلسطيني القديم المحرك الرئيسي للثورات و الانتفاضات سيكون منتهياً، و أنه سيظهر بعده جيل فلسطيني جديد ينتمي للعولمة و ثقافة التعايش و سيكون الهم الأكبر لهذا الجيل هو ريادة الأعمال و استثمار التكنولوجيا الحديثة، بدلا من الانشغال في أعمال المقاومة و الحركات السياسية الثورية.
في عام 2050 ، يتوقع الإسرائيليون أن الفكر الإسلامي السياسي سيندثر بالوطن العربي وسيكون هناك انتشار كبير للفكر العلماني و الليبرالي خاصة بعد فشل الإخوان المسلمين خلال فترة مايسمى الربيع العربي، مما سينهى الصراع الديني بين اليهود و المسلمين العرب حول الأماكن المقدسة في القدس.
خلال عام 2050، يتوقع الإسرائيليون، أن الجيل الفلسطيني الشاب الذي تعلم بأوربا و أمريكا ، سيكون من ضمن القيادات السياسية الحاكمة بفلسطين التي يمكن أن توافق على عقد سلام نهائي مع إسرائيل تحت شعار تبني الفكر المنطقي، وهذا ما صرح به بالفعل وزير الجيش الإسرائيلي ليبرمان عندما سألته صحيفة القدس خلال مقابلة معه تم نشرها بتاريخ 24/10/2016 ، حول إن كان هناك مرشحون فلسطينيون جدد للتفاوض مع إسرائيل ، فأجاب ليبرمان: "نعم هناك عدد من المرشحين الذين درسوا بأمريكا وهم منطقيون".
في عام 2050 ، يتوقع الإسرائيليون أن إسرائيل ستكون قد عقدت اتفاقيات سلام علنية مع معظم الدول العربية ، مما سيجعل اتفاقها مع الفلسطينيين هو مجرد تحصيل حاصل ،وهذا ما أكده مؤخرا نتاياهو أثناء استقباله للرئيس الإيطالي خلال شهر نوفمبر لعام 2016، عندما صرح بأن التقارب في العلاقات بين العالم العربي وإسرائيل سيؤدي إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيين.
خلال عام 2050 ، يتوقع الإسرائيليون بأن خارطة شرق أوسط جديد ستتشكل و دويلات جديدة ستنشأ ، مما سيجعل المناخ السياسي الإقليمي مهيئا لضمان أمن و إستقرار إسرائيل بجوار الدولة الفلسطينية الجديدة.
خلال عام 2050 ، يتوقع الإسرائيليون أن الحصار و الحروب و الانقسامات الداخلية و الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية، ستكون قد أنهكت من عزيمة الشعب الفلسطيني للمطالبة بمزيد من الحقوق ، مما قد يجعل الفلسطينيون يقبلون بسهولة أي حل سياسي مستقبلي ينقذ وضعهم الإنساني و يمنحهم الشعور بالاستقرار و الأمن.
في عام 2050 ، يتوقع الإسرائيليون أن الجيل الفلسطيني الجديد سيتناسى حق العودة، و لن يطالب باسترداد أراضي فلسطين التاريخية و سيكتفي بما تعطيه إياه إسرائيل، لأن هذا الجيل لن يحمل ذكريات بيولوجية لما قبل عام 1948.
خلال عام 2050 ، يتوقع الإسرائيليون أن الفلسطينيين سيفقدون الثقة الكاملة بأحزابهم السياسية بسبب الصراع الداخلي بين الأحزاب وعجز القادة التقليديين عن حل مشاكلهم، مما سيجعلهم يتوجهون لانتخاب قيادة سياسية حديثة تحمل فكر متجدد وسلمي وتنموي ولا تصطدم بمصالح إسرائيل الإستراتيجية.
لذا بناءً على تلك الأسباب المحتملة ، أعتقد أن الرفض الإسرائيلي المستمر للتفاوض مع الرئيس عباس و حديث إسرائيل المستمر أنه لا يوجد حاليا شريك فلسطيني للسلام، بالإضافة إلي التصريحات التي صدرت من قبل بعض كبار قادة الجيش الإسرائيلي، مثل يعلون الذي قال سابقا "إن السلام لن يحدث في جيلي" كل تلك الأمور ما هي سوى أكبر مؤشرات على أن إسرائيل لا تفكر حاليا ولا حتى بعد 10 سنوات منذ الآن لعقد اتفاق نهائي مع الفلسطينيين ، لأنها بكل بساطه تعول على الشباب الفلسطيني المستقبلي الحديث الذي سيكون متأثراً بالثقافة الغربية و الفكر الإنساني و الليبرالي ، وذلك على أمل إسرائيلي ، بأن يصبح هؤلاء الشباب أو حتى الأطفال ، هم قادة السلام بالمستقبل.
فحسب المقولة الشهيرة التي أطلقتها رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة جولدمائير في عام 1948 بأن " الكبار يموتون و الصغار ينسون" ، فإن إسرائيل تعتقد أنها ربما تحتاج إلي أن تنتظر منذ الآن حتى انتهاء جيلين آخرين من الفلسطينيين، ليأتي جيل جديد يكون قد نسي الماضي وكسب ثقة إسرائيل، ويكون قد أنهكته قصص الحروب والدمار، مما سيجعله ذلك يقبل بسرعة ودون استخدام القوة بعقد سلام نهائي مع إسرائيل حسب الرؤية الإسرائيلية، وعندئذ ستقوم إسرائيل بتقديم المكافأة الكبرى للفلسطينيين والتي أعلن عنها ليبرمان مرارا، وهي بأن إسرائيل مستعدة لتحويل قطاع غزة إلي سنغافورة في حال تخلى الفلسطينيون عن المقاومة.
لذلك علينا كفلسطينيين أن نعلم جيدا ماذا نريد ؟ و إلي أين نتجه ؟ و أن نخطط بشكل عملي ومنطقي لأهدافنا الواقعية ، لأننا إن لم نتقن فن التخطيط المستقبلي المدروس جيداً ، سيأتي من يخطط لنا و من يحركنا كأحجار الشطرنج دون أن نعلم من يحركنا.
وإن فشلنا بتجاربنا بسبب سوء تخطيطنا، سنتهم حينها كالمعتاد القدر بأنه هو سبب خسائرنا.
فلنخطط جيدا للمستقبل ونتعلم من أخطاء الماضي حتى تقوم دولتنا المستقلة دون انتقاص من حقوقنا الشرعية في الاستقلال و الحرية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية