ربما بمناسبة الحديث عن ذكرى رحيل الزعيم القائد المؤسس ياسر عرفات، لا بد من الحديث عن خليفته ورفيق دربه الرئيس أبو مازن. يبدو هذا الحديث ضرورياً في مرات، كما يكون هذا الاستدعاء جزءاً من النقاش العام في مثل هذه المناسبات. ومن المؤكد أن الحديث عن الرجلين سيظل لزمن طويل جزءاً مهماً من الحديث الفلسطيني عن تطور الهوية وبناء المؤسسة الوطنية الهادفة لاستعادة الحقوق. فهما أولاً وقبل كل شيء رفيقا درب وساهما معاً في انطلاقة الحركة الأكبر في تاريخ الثورة والنضال الفلسطينيين، أقصد حركة "فتح" بما مثلته من عامود للخيمة الفلسطينية. وربما أن الطريق الطويل الذي شقه الرجلان يستدعي بكثير من الإلحاح مثل هذا الاستدعاء.
بالطبع ليس هذا فحسب، إذ إن مثل هذا الاستدعاء وهذا الحديث يرتكز إلى حقيقة أساسية هي أن الرئيس محمود عباس هو الخليفة المباشر للرئيس ياسر عرفات. وعادة الناس الدائمة أنها تقارن بين الخلف والسلف، وتميل للمراجعات المتعددة التي ترتبط عادة بالانطباعات المكونة.
فمن الطبيعي أن يتم النظر دائماً إلى الماضي لمقارنة الحاضر. كما أن الخصوم السياسيين عادة ما يميلون لاستحضار الماضي من أجل تفكيك الارتباط بالحاضر. إنها أكثر من عملية ذهنية تتشارك وتتفاعل وتجعل مثل هذه المقارنات واجبة، بل في أحيان كثيرة ضرورة ضمن سياقات مختلفة، تعتمد عادة على الجهة التي تقف فيها من النهر.
من المؤكد أن المكانة التي احتلها الزعيم الراحل أبو عمار ستظل جزءاً مهماً عند الحديث عن تطور الوطنية الفلسطينية ونشوء ديناميات عملية التحرر الوطني الفلسطيني. وهي مكانة بالقدر الذي استمدها من شخصيته الكاريزمية الأبوية التي جعلته حقاً "أبو الوطنية الفلسطينية"، بالقدر التي ارتبطت بقيادته الأولى نويات حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي تمظهرت بشكل جلي بقيادة حركة "فتح" وبعد ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، وجملة الإنجازات المهولة التي تم تحقيقها والتي ارتبطت أكثر شيء بالعمل العسكري وبالمعارك التي خاضتها الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها حتى وفاته والتي شكلت عمليات العاصفة في قلب العدو ومعارك الكرامة وبيروت وغيرهما الجزء الأساس في ذلك.
لم يكن الأمر ليقتصر على الرئيس أبو مازن في استحضار الناس لكل هذا التاريخ الذي لا بد من أنه، أي الرئيس أبو مازن بوصفه أحد مؤسسي "فتح" وقادة لجنتها المركزية طوال كل هذا التاريخ، كان جزءاً منه وأحد صانعيه.
لكن إلى جانب ذلك فإن القضية لا علاقة لها بـ"أبو مازن" بل بفكرة أي شخص يأتي بعد ياسر عرفات. وعليه فقد تبدو المقارنة ظالمة وغير عادلة إذ إن فكرة أن أبو عمار يموت (وهي فكرة لا يتقبلها كثيرون) جعلت الحنين لفترة قيادة ياسر عرفات تشوه أي ارتباط بالحاضر، وكأن الماضي كان جميلاً دفعة واحدة، ولم يكن بلا أخطاء، بل هو معصوم من الخطأ، وأن المسيرة لم تكن بلا عثرات وبلا غضب وقلق وانتقاد، وكأنها كانت فترة مثالية، وأن المرحلة التي تلتها- بغض النظر عن رئيسها- لا بد أن تكون بالضرورة مرحلة أسوأ منها.
هذا الحنين المترع بالسخط على الذات وبجلد الحاضر لا علاقة له بالحاضر بأي حال من الأحوال. في هذا فإن الرئيس أبو مازن مفترى عليه. مفترى عليه من جهة الإصرار على مثل هذا الربط الذي هو نزوع بشري فطري، لكن يتم حمله بعيداً عن هذا حتى يصبح محاكمة سياسية واجتماعية ووطنية.
فمن جهة، فالرئيس أبو مازن لم يعمل شيئاً جديداً، فهو لم يخترع الطريق، بل سار عليها. الرجل أكمل ما بدأه ياسر عرفات من مشروع سلام. وهو لم يخلق مؤسسة جديدة بل قام برئاسة ذات المؤسسة التي أقامها عرفات، وهو لم يحد قيد أنملة عن أي من الثوابت التي تركها عرفات، بل إن نظرة خاطفة على سنوات حكمه ستقول: إنه قام بتصليب هذه الثوابت، بل وامتلك جرأة وقف المفاوضات طالما لم تُجدِ نفعاً. وهو لم يوقف شيئاً بدأه عرفات.
وهو لم يوقف الجيوش العربية عن الزحف نحو القدس ، ولا أوقف معارضيه عن استعادة يافا، ولم يزج بالسجون منتقديه كما يفعل أي زعيم عربي، ولم يواجه بالسلاح من تمرد عليه بل فضل عدم إراقة الدماء وجعل الدم الفلسطيني أغلى من الكرسي، رغم ما جلب له هذا من انتقاد من داخل أطر حركته. تحمل كثيراً على نفسه من أجل أن يصون الشعب ومصالحه، ووضع نفسه في مواجهة طوفان من الانتقادات في مواضع كثيرة، كان يدرك أنه سيواجهها، لكنه يعرف أن من يصنع التاريخ مثل من يسير في الطريق قد تدمى قدماه لكنه يواصل.
رغم ذلك فقد بدأ طريقاً وعرة أخرى لم تكن جزءاً من استراتيجية المواجهة سابقاً مثلما صارت في عهده. إنها المواجهة في المحافل الدولية. لقد حمل أبو مازن حلم عرفات بعيداً حين استطاع انتزاع اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية. صحيح أنه اعتراف غير كامل، لكنه أقصى ما أمكن تحقيقه ضمن الظروف الراهنة. ونجح في جعل فلسطين، لو بشكل جزئي دولة مثل بقية العالم تشارك مثل بقية الدول في المعاهدات وفي المؤسسات الدولية. حتى مواقفه الجريئة في بعض القضايا، التي كانت تعبر عن تبصر للمستقبل، سيتبناها خصومه ولكن بكلمات جديدة، مثل موقفه من إطلاق الصواريخ الذي تتبناه بعض قيادات " حماس " اليوم بحجة المصلحة الوطنية، وكأن مواقفه لم تكن أيضاً نابعة من الحرص على المصلحة الوطنية.
ومثل عرفات أيضاً، فقد ووجه بالنقد والاتهامات، وخرج عليه نفس الذين خرجوا على عرفات في غزة هاتفين ضده وفي نفس الميدان "الجندي المجهول"، ومثل عرفات أيضاً فقد أثار عليهما نفس الخصوم المحيط الإقليمي من أجل الإطاحة بهما. وللغرابة فإن من فعل ذلك يستخدم إرث عرفات – الذي كان أشد خصومه- في الهجوم على أبو مازن. مفارقات كثيرة لكنها جديرة بالتأمل.
ومثل عرفات توافقت تصريحات إسرائيل مع تصريحات خصومهما لأنه في المحصلة كان عليه إما أن يوقع على اتفاق لا يحقق الحد الأدنى من تطلعات شعبه أو أن يتم الهجوم عليه.
ومثل عرفات قد تختلف مع الكثير من مواقفه- لأن سمة الزعيم أن يشق الطريق البكر- لكن لا مناص في نهاية المطاف من الإقرار بالدور الكبير الذي يقوم به، ومثل عرفات قد يصاب أحدنا بغصة من بعض السياسات التي يقوم بها، لكننا وربما متأخراً سندرك أن المصلحة العامة أكبر من مجرد وجهة نظر واجتهاد، وأن قيادة شعب ومصالحه ليست مجرد دفق عاطفي وينتهي.
لابد أن التشابه مثير ويستدعي الكثير من التأمل خاصة في ذكرى الزعيم أبو عمار.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية