بلدان توشك فيها النقود على أن "تنقرض" مقابل البطاقات البنكية

لورين كوميتيه

صحفية

هل بات وقف التعامل بالنقود مقابل استخدام البطاقات البنكية الالكترونية أمرا أكثر "نظافة" و "أكثر أماناً" كما يقول البعض؟

كان والدي، وهو تاجر سابق في "وول ستريت"، ينصحني دوماً بأن امتلاك النقد هو أفضل شيء، وأن علي "التمسك به" عندما يمر الاقتصاد بأحوال عصيبة.

أما في هولندا، فمن المؤكد أن النقود السائلة لا تلقى اهتماما يذكر. ففي العديد من الأماكن، لم يعد يعترف بها كأداة للتعامل القانوني.

ونرى أعداداً متزايدة من أصحاب المتاجر الهولندية، من متجر "ماركت" الراقي لبيع الأطعمة الصحية، إلى المخبز، وصانع الكعك الكائن في منطقتي السكنية، باتوا يتعاملون فقط ببطاقات الخصم المباشر البنكية. حتى إن بعض باعة التجزئة يصفون التخلي عن التعامل بالنقد بكونه "أنظف" أو "أكثر أماناً".

أخفيت بطاقة الخصم المباشر البنكية الخاصة بي بعيداً عن متناول يدي، وقررت اكتشاف إلى أي مدى سأتمكن من التعامل بحزمة من النقود السائلة. لم تعد المدفوعات الكبيرة تتم بالأوراق النقدية، ومن بين ذلك على وجه التحديد إيجار سكني، وفواتير هاتفي.

وقد لاقيت تعبيرات تدل على الحيرة، وبعض الاعتراض عند محاولة استخدام النقود. "لا أتذكر آخر مرة استلمنا فيها الدفع نقداً"، هكذا تقول مارييل غروانيتتشيز، الموظفة لدى شركة "هون بي في لإدارة العقارات" التي تدير شقتي، مع أنها داومت في وظيفتها هذه لعقد من الزمن.

وتضيف: "لا نحبذ التعامل بالنقد في مكتبنا، وليست لدينا خزينة. كما إن البنوك تأخذ رسوماً على إيداع النقد لديها."

لكن التعاملات الأصغر من ذلك هي التي تسبب لي صداعا أقوى. فلست فقط عاجزا عن شراء بعض المنتجات العضوية من متجر "ماركت" نقدا، بل أجد نفسي مجبراً على الانتظار في طوابير طويلة جداً مخصصة لزبائن النقد عند شراء احتياجاتي من الأسواق المركزية، في وقت أرى فيه حاملي بطاقات الخصم المباشر البنكية وهم يدفعون لقاء مشترياتهم بسرعة، وينطلقون إلى بيوتهم لتناول العشاء.

وعندما حاولت شراء شطيرة سمك التونا من أحد مخابز سلسلة "فلامز بروودهايز" الهولندية، رُفض النقد الذي بحوزتي. كما لم أتمكن من استعمال عملة اليورو التي لدي لدفع رسوم مواقف السيارات في معظم أرجاء المدينة.

يقول ميشيل فان دوايفيرين، كبير المستشارين في تعاملات المصارف لدى البنك المركزي الهولندي (دي إن بي.): "العملة النقدية باتت كأنها ديناصور، لكنها ستظل باقية".

 

لكنه يلفت الانتباه إلى أن الأمور اللوجستية هي التي تجعل التعامل بالنقود مكلفاً (إذ يتوجب نقلها، وحراستها، وعدّها، وتدوينها) في مقابل سهولة الدفع بالوسائل الألكترونية. ويقول دوايفيرين: "من المهم زيادة الاقتصاد الالكتروني. نريد تبنّي طرق دفع أكثر فعالية."

السبيل لكسب المال

إن الدفع بالوسائل الالكترونية في متاجر وأسواق هولندا تجاوز الدفع نقداً لأول مرة في عام 2015 بنسبة ضئيلة. فقد بلغت نسبة الدفع عن طريق بطاقات الخصم المباشر البنكية 50 في المئة، بينما كان الدفع نقداً بنسبة 49.5 في المئة، أما النسبة المتبقية، وهي 0.5 في المئة، فقد كانت ببطاقات الائتمان.

ويوجد تحرك نشط لمجموعة تتكون من عدد من البنوك وباعة التجزئة الهولنديين ممن يريدون زيادة نسبة الدفع بالوسائل الالكترونية لتصل إلى 60 في المئة مقابل 40 في المئة للعملة النقدية المتداولة بحلول عام 2018. ويقولون إن الدفع غير النقدي هو أرخص وأكثر أماناً وملائمة.

ومثل هولندا وجيرانها من الدول الاسكندنافية، تعتبر السويد ضمن دول الصدارة في السباق للتخلص من العملة النقدية في مقابل التعامل بالبطاقات الالكترونية. لكن، لا يحبذ الجميع ذلك الأمر.

"إنها معضلة كبيرة. فبالنسبة لأصحاب الأعمال الصغيرة، يكلف إيداع النقود في البنوك والمصارف الكثير من المال"، حسبما يقول غويدو كارينتشي، رئيس مؤسسة "تومر" للأعمال الصغيرة.

ويصف كارينتشي الوضع بأنه "مفزع"، قائلاً إن عليه دفع رسوم تصل إلى 300 كرونا سويدية (قرابة 35 دولار أمريكي) كل شهر لشركة ما كي تقوم بإيداع النقد في حسابه المصرفي.

ويتعلق الأمر كله بهامش صافي الأرباح. فهو يقول إن البنوك السويدية تحصل على أرباح ضخمة، من الرسوم التي تفرضها على التعاملات التجارية لباعة التجزئة عند الدفع بالبطاقات الالكترونية، تصل إلى ملايين الكرونات سنوياً، في وقت لا تكسب فيها أية إيرادات من النقود. ولا يوفر هذا الوضع حافزاً كبيرا للبنوك لكي تقبل التعامل بالعملة النقدية.

ونظراً للنفقات الباهضة للتعامل بالنقد، والمخاوف الأمنية، تخلّت العديد من المتاجر السويدية فعلاً عن أجهزة التعامل بالنقود، بما فيها شركة "تيلياً" العملاقة للاتصالات، حيث توقفت مراكزها الـ86 المنتشرة بطول البلد وعرضه عن قبول النقد في عام 2013.

أما باصات النقل في البلد فقد توقفت عن قبول النقد من المسافرين منذ سنين خلت. حتى باعة مجلات المشردين تقبل الدفع بالبطاقات وأجهزة الهواتف النقالة في أيامنا هذه.

 

وقد أصبحت المشكلة كبيرة إلى درجة أن الكثير من المقيمين في السويد، ممن يواجهون مأزق التصرف مع كميات النقد التي لا تريدها المصارف والبنوك، أصبحوا يعمدون إلى "إخفائها في أفران المايكروويف"، حسبما يذكر بيورن أريكسون، رئيس تحالف تجاري يعرف باسم "ساكيرهيتسبرانشون" في قطاع الائتمان.

روابط ثقافية

رغم ما ذكر، نرى تفاوتاً كبيراً في السلوكيات والمواقف عبر أوروبا والعالم. لا تزال بعض المجتمعات والثقافات مترددة بقوة بشأن التخلي عن النقد، بما فيها ألمانيا التي يعتقد المستهلكون فيها، حسب دراسة حديثة أجراها البنك المركزي للبلد، أن استعمال النقود يعطيهم تحكماً أفضل في عملية الإنفاق.

ففي بلد يُعتبر القوة الاقتصادية العظمى لأوروبا، لا تزال أكثر من 75 في المئة من المدفوعات تجرى عن طريق العملة النقدية. أما في إيطاليا، حيث تمتد جذور عميقة للتعامل بالنقود، فإن تلك النسبة تقفز إلى 83 في المئة.

وبقدر ولع الأمريكيين بعملة الدولار حتى وقتنا الحاضر، فإن السير خطوة نحو التخلي عن النقد بدأ يترسخ عبر الأطلسي أيضاً، مع أنه تم اعتماد بطاقات الائتمان المحتوية على شريحة الكترونية في العام الماضي فقط في الولايات المتحدة، بعد عقد كامل مما جرى في الكثير من الدول الأوربية.

وفي يناير/كانون الثاني، توقفت عدة فروع لسلسلة مطاعم "سويتغرين"، المتألفة من 48 فرعاً، عن قبول الدفع نقداً، بما فيها فرعها الكائن في "وول ستريت".

يقول المواطن الأمريكي بيرسيفون زيل، من سكان نيويوريك، إنه اندهش من تلك الخطوة.

ويضيف: "أعتقد أن السبب يعود إلى استعمال كل تلك الجماهير الشبابية الغفيرة في ’وول ستريت‘ لتطبيقات هواتفهم الذكية، مثل ’أبل باي‘، لشراء أغراضهم. أعلم أن ابنتي تستعمل تطبيق ’فينمو‘ لشراء كل شيء. وبصراحة، يجعلني ذلك أشعر وكأنني طاعن في السن، وعفى علي الدهر."

إن التقدم الحاصل في مجال التقنيات المتنقلة جعل المصارف تتقدم بقفزات لتسبق طرق الدفع نقداً في بعض الدول الأفريقية.

 

ففي كينيا وتنزانيا، على سبيل المثال، دفعت منظومة "إم- بيزا" البنكية المتنقلة للدفع غير النقدي الملايين من الناس لدفع الفواتير، واستلام رواتبهم، وشراء الدواجن والمواشي، وحتى القيام بتعاملات بسيطة في الأسواق المحلية، عبر حسابات بنكية تجرى عن طريق تطبيقات هواتفهم النقالة.

القضاء على العملة النقدية

شخصياً، أكره أن أرى تحمل الناس من أمثالي تكاليف تداول النقود بشكل متزايد، ومع ذلك، أتجهُ صوب الفرع المحلي للبنك لأجمع بعض المغلفات الخاصة بالنقود المعدنية.

في البنك الذي أودع فيه أموالي، يفرضون عليّ رسوماً تبلغ 6 يورو (5.38 دولار أمريكي) لقاء كل عملية إيداع بعد المرات الستة الأولى في كل سنة.

وبينما تكسر ابنتي خزنتها المصنوعة من الفخار وتحصي بعناية كل خمسة يوروهات معدنية، أدركت أن نفقات إيداع مبلغها الضئيل في حسابها البنكي سيقضي على كل ما ادخرته.

وعند حديثي إلى موظفة البنك الذي أتعامل معه، حاولت أن أشرح لها أنني بصدد الحصول على أغلفة ورقية صغيرة مليئة بفئات مختلفة من النقود المعدنية كنت أستخدمها عندما كنت صغيراً.

لكن يبدو أنها لم تفهم ما أقصده بسرعة، وبسؤالها عن عمرها، أخبرتني أن عمرها 25 عاماً، مما قادني إلى الاستنتاج بأن مشكلة العملة النقدية قد تحل نفسها بنفسها عبر العقود القادمة، عندما يتولى الأمور جيل جديد من الشباب.

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد