استكمالاً للنقاش السابق حول الديمقراطية التي جلبها الربيع العربي، فإن أحد أهم النتائج التي لا نقاش فيها هو عدم مقدرة الربيع العربي على جلب الديمقراطية وأن رياحها المفترضة لم تقلب أشرعة الحكام الطغاة بل قلبت مركب الدولة وهمشته. بالطبع لم يكن الخطا في الديمقراطية نفسها ولم يكن في المواطنين البسطاء الذين خرجوا يواجهون دبابات الحكام بصدورهم العارية، ولا في الشعارات الجميلة التي ارتفعت في الميادين والتي طالبت بالحقوق والحريات، كان الخطأ في التدخل الخارجي الذي لم يرد للشعب العربي أن ينعم بالديمقراطية، كما كان من مقدرة الأنظمة على إعادة انتاج نفسها بقبعات جديدة وربما محاكمة بعض رموز النظم السابقة من اجل إثبات التحاق نخبة النظام الجديد بركب الثورة المدنية.
ويمكن للمرء بالقليل من الشك أن يميل للاعتقاد بان مهمة الربيع العربي – أو ربما للدقة النتيجة الحتمية الأكثر اندماغاً في الذاكرة له- كانت تفكيك الدولة الوطنية في العالم العربي. بمعني ان تقود الثورات الجماهيرية والصراع على السلطة إلى الاجهاز على مؤسسات الدولة وتدميرها وإشغال القوى المتناحرة في محاولة الوصول إلى مفاتيح الحكم ومؤسساته، ليس عبر الصراع المدني من خلال صناديق الاقتراع بل من خلال الاقتتال المسلح تحت مسيمات مختلفة تكون نتيجته هو تدمير الجولة والإتيان على آخر معاقلها سواء كان ذلك الجيش او المؤسسات المدنية. بالطبع لا يمكن اليقين بذلك من جهة نوايا الشبان الثائرين الذين خرجوا مؤمنيين بمقدرتهم على التغير بعدما راول الطغاة ينهارون ويهربون من قصورهم ويخضعون لارادة الشعوب، هؤلاء الشبان الذي آمنوا بانهم قوة التغير الأكثر مقدرة على إحداث الفرق في حياة الناس. لا يمكن الشك في نوايا هؤلاء بكل تأكيد. ولكن ثمة أيد خفية كانت تقوم بتلك الأمور ليس خلال المواجهات، بل بعد أن عاد الشبان إلى البيوت وبدأ الساسة يجنون ثمار الهبات والثورات الجماهيرية وكأن الثورة فعلاً يبدأها مغامر ويقطف ثمارها جبان وانتهازي. تم تفكيك كل شيء حتى شعارات الثورة وحتى مطالبها وتم البحث عن الصراعات الهامشية التي بدورها تصبح بعد إذكائها بالخطاب التعبوي صراعات مركزية وهي جوهر الاقتتال، بل يكاد المرء بنظرة استرجاعية للماضي أن يظن أنها كانت هي أصل الثورة ومقصدها وغايتها. وكما اقترح التحليل السابق فإن ثمة صراع آخر خافي بين القوى الخارجية التي حركت حتى قواتها العسكرية لتحقيق بعض الأهداف المنفعية سواء المتعلقة بالنفوذ وحماية المصالح أو تعلقت بالمنافع الاقتصادية الجديدة التي ستترتب على عمليات إعادة البناء مثلما حدث في ليبيا مثلاً، وصراع مع الصف الثاني من النخبة الحاكمة الراحلة التي أعادت انتاج نفسها وقدمت نفسها بوصفها الوجه الثوري الجديد القادر على استيعاب مطالب الثوار وحماية تطلعات الثورة. والنتيجة كانت أن الأمر تحول إلى صراع واقتتال دموي للوصول إلى مقاليد الحكم وبالتالي انتهي إلى كونه لعبة محكمة لتدمير الدولة العربية. 
فبدلاً من إعادة بناء الدولة العربية عبر عمليات الدمقرطة المتوقعة تم تهديم الدولة وتفكيكها. كان البعض –وانا منهم وفي هذه الصحفة- ينظر للربيع العربي بانه المرحلة الثانية من مراحل بناء الدولة العربية، حيث تمثلت المرحلة الأولى في بناء الدولة بعد تفكك الاستعمار ورحيله وقيام النخبة الثورية في الكثير من الحالات – والتي كان جلها من العسكر- بعملية بناء الدولة ومؤسساتها إرساء النظم والقوانيين والدساتير التي تنظم عمل الدولة وتؤسس لعلاقتها مع المواطنين. لكن هذه العلاقة لم تكن سليمة في معظم الحالات إذ ارتكزت على مصادرة الحريات وقمع الرأي المخالف و فتح السجون وصار التعذيب لغة أساسية في تواصل الدولة مع مواطنيها. ورغم الخطاب التنموي الواسع والمفعم بالبلاغة فإن الدولة العربية لم تنجح في تحقيق التنمية ولم تتمكن من إطلاق عجلة النمو الاقتصادي. وحتى تلك الدول الغنية التي وهبها الله النفط لم تستخدم المال بالشكل المناسب من أجل إحداث ثورة صناعية واقتصادية بل ظلت مستخدمة للمعرفة والصناعة وغير منتجة لها، وبقيت على حافة الدول الغنية كدول تعتمد على الريع الاقتصادي وليس على نشاط اقتصادي تقوم هي بصناعة مكوناته. وأياً يكون ىالحال فإن الدولة العربية ظلت كسيحة في بداياتها وظلت تعاني من عدم مقدرتها على تحقيق التقدم والرخاء لمواطنيها. وعليه لم يكن مستغرباً غياب هذه الدولة عن المنجزات العالمية بدئاً من الاقتصاد والنمو ومرورواً بالسينما والرياضة والاختراعات وغير ذلك. 
حتى الجيوش العربية التي كان يمكن لها أن تشكل حالة قوة للأمة العربية وتحديداً الجيش العراقي والمصري والسوري تم العمل من اجل أضعافهم. في الحالة العراقية فقد كانت غاية الحرب على العراق تفكيك الجيش العراقي وهذا تم خلال أيام من احتلال الجيش الأمريكي للعراق. لم تتفكك الدولة بل تم تفكيك الجيش الذي ضرب إسرائيل أكثر من مرة. أما الجيش السوري فقد تعرض لأكبر عملية استنزاف من خلال خلق الجيوش الفرعية والمجموعات المسلحة التي هدفت إلى تمزيق الجيش والدولة. بالطبع لا يفوتنا أن نؤكد أن الجيش السوري ارتكب خلال ذلك مجازر بشعة وقام بعمليات قتل لا يمكن أن تكون إنسانية ومشروعة بأي حال. ولكن ما أقصده أن أهم نتيجة للثورة السورية كانت تفكيك الدولة والجيش. في الحالة المصرية فإن الجيش بات همه الأساسي  فرض سيطرته على الدولة ومحاربة المجموعات المسلحة التي باتت لا تستهدفه فقط بل تقوم بتفجيرات في المدن وغير ذلك. غاية كل ذلك ان أهم ثلاثة جيوش عربية باتت إما ممزقة او انتهت فعلياً أو منهكة في ملاحقة خصوم لا ينتهون.
والمحصلة أن الدولة الوطنية في العالم العربي التي وجدت أيضاً رغم إرادة المواطن العربي ووفق إرادة السيدين سايكس وبيكو، لن يقدر لها أن تستمر بالشكل الطبيعي وتنمو تكون مصدر قورة وفخر للمواطن العربي، بل عليها أن تظل عاجزة وغير قادرة أن تكون دولة مواطنيها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد