جاء في البيان الختامي لمؤتمر غروزني عاصمة الشيشان الصادر بتاريخ 25 اغسطس الماضي تحت عنوان ( من هم أهل السُنّة والجماعة ) أن " أهل السُنّة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية – ومنهم أهل الحديث المفوّضة – في الإعتقاد , وأهل المذاهب الأربعة : الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الفقه , وأهل التصّوف الصافي علماً وخُلقاً وتزكية على مسلك الإمام الجنيد وأمثاله من أئمة التصّوف " . وهذا الحصر لأهل السُنّة والجماعة في الفئات السابقة يعني ضمنياً إخراج الآخرين من هذا التعريف وإبعادهم عن دائرة ( أهل السُنّة والجماعة ) . فما هي دلالات هذا التصنيف ؟ ومن هم أهل السُنّة والجماعة ؟

أولاً : واضح من انعقاد مؤتمر غروزني وإصداره لهذا البيان الذي يحاول فيه صياغة تعريف جامع مانع لأهل السنة والجماعة، أن هناك صراعاً على لقب ( أهل السُنّة والجماعة ) بين التيارات والمدارس والفرق والمذاهب الإسلامية السُنّية المختلفة , وهذا واضح من المبرر الذي ساقه المؤتمرون في بيانهم الختامي لعقد المؤتمر بقولهم : " يأتي هذا المؤتمر ليكون بإذن الله نقطة تحوّل مباركة لتصويب الانحراف الحاد والخطير الذي طال مفهوم ( أهل السٌنّة والجماعة ) أثر محاولات اختطاف المتطرفين لهذا اللقب الشريف وقصره على أنفسهم وإخراج أهله منه " . وهذه إشارة واضحة إلى التيار السلفي الوهابي الذي سبق أن ابتلع في جوفه التيارات السلفية الأخرى وأستولى على ميراث المدرسة السلفية الفكري ، ثم انتقل إلى احتكار تمثيل ( أهل السُنّة والجماعة ) وأخرج الأشاعرة والماتريدية والصوفية وفئات أخرى منهم , ثم يحاول الآن احتكار تمثيل الإسلام برمته .

ثانيا : إن بيان المؤتمر الختامي لا يخرج ضمنياً التيار السلفي الوهابي من دائرة ( أهل السُنّة والجماعة ) فقط , بل يخرج أيضاً مذاهب وفرق إسلامية أخرى – اعتقادية وفقهية – من هذه الدائرة , كمذاهب الأئمة : داوود الظاهري , وابن حزم الأندلسي , وعبدالرحمن الأوزعي , والليث بن سعد , وسفيان الثوري وغيرهم , إضافة للمعتزلة والأباضية ومذاهب أخرى . فضلاً عن المذهب الجعفري والمذهب الزيدي وغيرهما عند الشيعة الذين لهم فهمهم وتصنيفهم الخاص للمصطلح . ولكن التيار السلفي الوهابي أدرك أنه المقصود الرئيسي بحصر تعريف ( أهل السُنّة والجماعة ) على الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد , الأمر الذي يخرّجهم من التعريف , ويمنع دخولهم فيه , وينزع عنهم اللقب الذي طالما قاتلوا من أجل احتكاره لأنفسهم , لذلك كانت ردة فعلهم عنيفة وشرسة , لا سيما من أكبر مراجعهم الدينية ممثلة في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية , وغيرهم من رموز التيار الذين اتهموا المؤتمر بأنه يحاول سرقة لقب ( أهل السُنّة والجماعة ) من أهله ! , بينما يرى المشاركون في المؤتمر أنهم أهله والأحق به , وأنهم قد استردوا اللقب بعد أن سُرق منهم في غفلةٍ من الزمن .

ثالثاً : إن البيان الختامي لمؤتمر غروزني وأن كان قد أخرج كل هذه الفئات من دائرة ( أهل السُنّة والجماعة ) , فإنه لم يخرجهم من دائرة الإسلام , كما فعل غيرهم في إخراج مخالفيهم من هذه الدائرة , خاصة التيار السلفي الوهابي الذي أوشك أن يخرج كل مخالفيه من دائرة الإسلام , بعد أن أخرجهم من دائرة ( أهل السُنّة والجماعة ) , وهذا واضح من انتاجهم الفكري المكتوب والمسموع المزدحم باتهام مخالفيهم بالكفر أو الشرك أو الفسق أو الضلال أو البدعة , ذلك بأنهم اعتبروا اجتهاد علمائهم في فهم نصوص القرآن والسنة هو الإسلام نفسه وليس اجتهاداً في فهم الإسلام . وبناءً على هذا المنهج الخاطئ في قراءة وفهم النصوص رموا مخالفيهم بالكفر أو الشرك حيناً وبالفسق والضلال والبدعة أحياناً أخرى .

رابعاً : إن مشاركة الأزهر الشريف – منظّر المذهب الأشعري الأول – في المؤتمر مُمثلاً في قمة هرمه وشيخه وإمامه الأكبر ( أحمد الطيب ) الذي ألقى الكلمة الرئيسية في المؤتمر , ومفتي مصر الحالي ( شوقي علام ) والسابق ( علي جمعة ) , ومستشار الرئيس السيسي ( أسامة الأزهري ) الذي ألقى البيان الختامي للمؤتمر , وهم يمثلون النخبة الشرعية الرسمية في مصر , والتي تتبنى المذهب الأشعري كغالبية علماء مصر من خريجي الأزهر , هو أكثر ما أستفز التيار السلفي الوهابي , بعد أن اعتقدوا واهمين أن الأزهر قد سلّم لهم بقيادة العالم الإسلامي السني تحت ضغط الإرهاب الفكري المدعوم بأموال البترودولار , فإذا هو ينهض من جديد ليسحب بساط المرجعية الإسلامية السُنّية من تحت أقدامهم , وليسحب معه احتكارهم لتمثيل ( أهل السُنّة والجماعة ) .

خامساً : إن مصطلح ( أهل السُنّة والجماعة ) رغم وصفه في نص البيان الختامي بأنه " لقب شريف " في حقيقة الأمر ليس له أي قداسة دينية , وذلك بأنه لم يرد بهذا اللفظ في القرآن الكريم أو السنة النبوية , كما لم يكن معروفاً في صدر الإسلام , وظهر في عصور متأخرة قد تكون في منتصف العصر العباسي , وأن ظهوره كان لتراكم الصراعات السياسية على السلطة والصراعات الفكرية على فهم وتمثيل الإسلام , واكتسب المصطلح معاني متعددة ومدلولات مختلفة . ففي المعنى العام أُطلق على غالبية المسلمين الذين يُقرون بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة , والتزموا بطاعة خلفاء الدولتين الأموية والعباسية ، تمييزاً لهم عن الخوارج والشيعة , وكذلك تمييزاً لهم عن إتباع الفرق الضالة التي انحرفت عن جوهر الإسلام . وفي المعنى الخاص أُطلقت على مذاهب وتيارات إسلامية بعينها أو نسبت اللقب إلى نفسها , وعلى وجه التحديد تنازع اللقب كل من التيار السلفي من مدرسة الإمامين أحمد بن حنبل في الفقه  وأحمد بن تيمية في العقيدة , وتيار المذهبين : الأشعري والماتريدي للإمامين أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في العقيدة , اللذان تبنى اتباعهما المذاهب الشافعية والحنفية والمالكية في الفقه .

والخُلاصة أنه كان من الخطأ أن يقع مؤتمر غروزني في نفس الخطيئة التي وقع فيها التيار السلفي الوهابي , وهي إقصاء مخالفيهم من دائرة ( أهل السُنّة والجماعة ) كمدخل لمن يريد إخراجهم من الإسلام , فيقوموا باستبعاد غيرهم من هذه الدائرة ،   وكان الأوْلى بالمؤتمرين أن يردوا على الفكر الإقصائي الذي يشتت الأمة ويفرّق كلمتها بالفكر الوحدوي الذي يُجمّع الأمة ويُوّحد كلمتها , فيتبنوا نهجاً وحدوياً وفكراً تقريبياً يلتقي على كلمة سواء , ويتعاون في المتفق عليه وهو كثير ، وبالحد الأدنى أن يتم توسيع مفهوم ( أهل السُنّة والجماعة ) ليشمل كافة المدارس والمذاهب الإسلامية المختلفة بما فيهم المدرسة السلفية والتيار الوهابي . وبالحد الأقصى أن يتم استبدال مفهوم ( أهل السنة والجماعة ) بمفهوم ( الأمة الإسلامية ) الذي يضم كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم وتياراتهم  , وفي ذلك عودة إلى الأصل الذي أراده الله تعالى للأمة استجابة لقوله تعالى " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ " .

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد