يصادف هذا العام مرور خمسون عاماً على تأسيس اتحاد كتاب فلسطين، وهذا، بالتأكيد، فرصة للتأمل في واقع الاتحاد ومراجعة مسيرته والبحث عن سبل الوصول بالاتحاد نحو الأفضل.
إنها مسيرة تستحق التقدير بالطبع لما احتوته من تضحيات ومواقف كان الاتحاد فيها دوماً لبنة أساسية في عماد البناء ومشروع التحرير لأن الكاتب الفلسطيني كان دوماً شريكاً في القتال سواء بالكلمة أو من خلال اشتراكه في معارك الثورة.
خمسون عاماً، نصف قرن من الزمن، تستحق التوقف والتأمل وقراءة السيرة والمسيرة من أجل العمل على دفع العجلة للأمام. وأظن أن الشعوب التي لا تقرأ تجاربها لن تعيش أفضل منها لاحقاً.
ومن المؤكد أن واقع الاتحاد ليس بأفضل أحواله ارتباطاً بجملة كبيرة من التغيرات والمياه العنيفة التي جرت تحت الجسر، وارتباطاً ببعض تجارب الاتحاد، وربما بواقع ومكانة الاتحاد في الحياة العامة التي تراجعت كثيراً على سبيل المثال، وتراجعت مكانته بين المثقفين وهي مكانة يجب الحفاظ عليها، والتي نازعها فيها الكثير من المؤسسات، خاصة بعد توسع المنظمات الأهلية المهتمة بالشأن الثقافي والمعرفي. وهو نزاع ربما من طبيعة التحولات التي طرأت على الحياة في فلسطين بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، لكنه نزاع يقتضي البحث عن سبل تطوير أدوات العمل وترسيخ المكانة وتوسيع المهام وتحولها حتى يظل الاتحاد الرافعة الأساسية للحياة الثقافية في البلاد ويظل الكيان المعرفي للفعل السياسي، ويحافظ، كما أراد له آباؤه المؤسسون، على أن يكون جزءاً من معركة التحرر والنضال نحو استعادة البلاد والحفاظ على الهوية الوطنية، وأيضاً هو البيت الكبير الذي يجد فيه الكاتب الفلسطيني كيانه ومظلته التي يقف تحتها مفتخراً، وتساعده في تطوير أدواته الكتابية وتعميمها والنضال من أجل خلق واقع أفضل.
كما من المؤكد أن الاتحاد بعد هذه السنوات أصابه ما أصابه من تحولات أفقدته الكثير من فعاليته وديناميته التي يجب العمل على استعادتها حتى لا يجد نفسه خارج الفعل الثقافي ولا يقتصر دوره فقط على أن يكون مجرد مؤسسة أخرى، بل أن يكون اتحاداً يليق بنضالات كتاب فلسطين وتضحياتهم وبمكانة الأدب الفلسطيني وحمايته من الانزلاق في متاهات ذوبان الهوية ونزع الوطنية عنه.
يذكر هارون هاشم رشيد في مذكراته الموسومة «إبحار بلا شطآن» تفاصيل تأسيس اتحاد كتاب فلسطين في العام 1966 في مدينة غزة ، بعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تشكلت لجنة تحضيرية من أحد عشر عضواً؛ للإعداد لمؤتمر لكتاب فلسطين، ضمت اللجنة في عضويتها: غسان كنفاني ومحمد زهدي النشاشيبي وعبد الكريم الكرمي وخيري حماد وهارون هاشم رشيد. وحددت اللجنة المنطلقات الأولية لأهداف الاتحاد المتمثلة ببعث التراث الفلسطيني، وتنميته كجزء من إعادة بناء الكيان الفلسطيني والعمل على إبراز الشخصية الفلسطينية، وتشجيع أدب المقاومة، وتعريف أدباء العالم بالقضية الفلسطينية.
وفي الأسبوع الأول من كانون الأول من العام 1966، تم افتتاح المؤتمر في قاعة سينما النصر (لا بد أن منظرها وهي شبه محترقة ومهجورة الآن في شارع عمر المختار قرب مفترق السامر يثير الحزن والأسى). وخلال المؤتمر تحدث المرحوم الشقيري وألقى الشاعر محمود حسن إسماعيل كلمة اتحاد الكتاب العرب، وألقيت البرقيات من اتحاد كتاب الصين والمؤتمر الدائم لكتاب آسيا وأفريقيا، فيما ألقى أبو سلمى كلمة اللجنة التحضيرية.
ويذكر هارون هاشم رشيد تفاصيل اختيار لجنتين عن المؤتمر: واحدة ثقافية تألفت من غسان كنفاني وسميرة أبو غزالة وخيري حماد وعودة بطرس عودة ومحمد حسين القاضي وعبد الرحمن عوض الله وغيرهم، وثانية تنظيمية تتألف من نواف أبو الهيجا ومحمود الحوت وأبو سلمى وبيان نويهض الحوت وغيرهم. ومن ثم تم انتخاب أول أمانة عامة للاتحاد من أعضائها: خيري حماد وأبو سلمى وصبحي ياسين وعودة بطرس عودة وهارون هاشم رشيد.
بالطبع مذكرات هارون هاشم رشيد غنية بالكثير من التفاصيل حول الحياة في مدينة غزة منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حتى سقوط غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، واضطرار الشاعر الكبير، صاحب قصائد العودة التي ألهمت أطفال المخيمات، إلى مغادرة غزة التي ولد فيها العام 1927. تفاصيل أظنها بحاجة لتعميم؛ لأنها تحتوي الكثير من المعلومات حول الحياة العامة؛ لأن هارون هاشم رشيد كان يعمل موظفاً حكومياً في إدارة الحاكم العام في قطاع غزة، وحوّل النشاطات الثقافية التي منها مثلاً زيارة سارتر وسيمون دي بوفوار لغزة خلال الستينيات ومالكون أكس وغيرهم. سيرة تستحق القراءة.
خمسون عاماً مرت على تلك اللحظات التي يتحدث عنها هارون هاشم رشيد، عصفت بالحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في فلسطين عواصف وهبت عليها أنواء وأبحرت فيها أمواج، دون أن تنتفي الحاجة لوجود اتحاد قوي قادر، على أن يكون مظلة الثقافة الفلسطينية وبوتقة تفاعل الحراك المعرفي الذي يسعى لفلسطين الأفضل.
بالتأكيد هي مهمة ليست سهلة وهي تتطلب الكثير من الجهد الذي قد يكون مرور خمسين عاماً على إنشاء الاتحاد مناسبة من أجل العمل على بذلها. إنها جهود تستحق أن تؤخذ على محمل الجد؛ لأن الاتحاد بحاجة، بعد مرور نصف قرن على إنشائه، إلى أن نقف باحترام وتقدير أمام كل من عمل على تطويره وساهم ولو بكلمة في عملية بنائه واستمرار مسيرته.
وأظن أننا بحاجة، من أجل تحقيق ذلك، لعقد سلسلة من ورشات العمل، يشارك فيها الكتاب، خاصة أولئك الذين ساهموا في مسيرة الاتحاد، دون نسيان دور الشباب الذين هم عماد المرحلة المقبلة، من أجل الوصول إلى جملة من الوثائق التي تساعد في تطوير عمل الاتحاد وتعزيز مكانته وفاعليته والحفاظ عليه كأحد أهم مؤسسات الفعل الوطني الفلسطيني، ولبنة أساسية من لبنات المشروع التحرري، والنظر للمستقبل بعيون قادرة على التبصر، والكشف عن القليل من المجهول الذي يحمينا من الوقوع في متاهات نجد أنفسنا فيها خارج سياق الفعل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية