2014/08/25
167-TRIAL-
يكاد الإسرائيلي يعلن للعالم جهارا نهارا أنه جن جنونه. فقطاع غزة يخرجه عن طوره خصوصا أنه امتلك قدرات أتاحت له إلحاق أذى بإسرائيل تحت الحزام. فالجيش الإسرائيلي يذهب لاقتلاع أبراج بكاملها استمرارا لمنطق طحن أحياء بكاملها. ولكن هذه المرة بعيدا عن الحدود وفي قلب المناطق الأشد اكتظاظا ليس فقط في مدينة غزة وإنما في رفح وجباليا وسواهما.
ويعجز كثيرون، خصوصا في قطاع غزة، عن فهم ما يجري خصوصا ان بعض جوانبه غير مسبوقة. فمثل هذه الوقاحة في استهداف المدنيين وادعاء أنها مقرات قيادة وسيطرة تخطت كل ما سبق. ومن الواضح أن لها أسبابا مختلفة ومتعددة. ولا يمكن فهمها من دون محاولة وضع الأمور في إطار عمومي واضح.
في البداية هناك مسألة الوقت: هذه أطول حرب في تاريخ إسرائيل وأشدها اتساعا وكثافة نيران وهي مستمرة حتى الآن طوال خمسين يوما. والمفارقة أنها تدور بين الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل التي تكاد تعلن هيمنة شبه كاملة على المنطقة العربية وبين قطاع غزة المنعزل والمحاصر.
فمقابل كثافة النيران الإسرائيلية، ما يزيد على سبعة آلاف طن متفجرات، وفق تقديرات إسرائيلية و20 ألف طن وفق تقديرات فلسطينية، انطلقت الصواريخ بمتوسط يزيد على المئة طوال أيام الحرب وبما يصل حتى الآن إلى أربعة آلاف صاروخ وفي نطاق وصل إلى حيفا. ومن البديهي أن أعباء هذه الحرب على إسرائيل كبيرة لدرجة يتعذر تخيلها. تكفي الإشارة إلى أن التكلفة الحربية البحتة إلى ما قبل الهدنة الأخيرة بلغت 2.5 مليار دولار فضلا عن خسائر اقتصادية وتعويضية بمليارات أخرى من الدولارات.
ولكن الخسارة لا تقف عند هذا الحد. هناك الخسارة المعنوية الهائلة لدولة تحاول أن تفرض سطوتها على دائرة يزيد نصف قطرها على ألف كيلومتر فتجد نفسها عاجزة عن فرض سيطرتها على قطاع متوسط عرضه سبعة كيلومترات ونصف كيلومتر. ولا تقف الخسارة فقط عند حدود الانطباعات التي قد تتولد لدى «الأعداء» من لبنان إلى إيران وإنما في مواقف الجمهور الإسرائيلي أيضا.
فالجيش الإسرائيلي بدا عاجزا في نظر الإسرائيليين، رغم كل الدمار الذي أوقعه بغزة، عن حسم المعركة. وهذا يدفع كثيرين للتفكير بجدوى البقاء في إسرائيل ومدى اعتبارها مكانا آمنا لليهودي. ولكن ما لا يقل أهمية عن ذلك نظرة سكان غلاف غزة والمدن حتى تل أبيب من البقاء فيها في هذه الظروف. وتكفي الإشارة هنا إلى التطورات المتعلقة بسكان مستوطنات غلاف غزة وحتى حدود 40 كيلومترا عن القطاع. فقد أقام بعضهم، خصوصا من المناطق الأقرب للقطاع مخيما اعتصاميا قبالة ديوان رئاسة الحكومة مطالبين بحل. واضطرت الدولة العبرية، للمرة الأولى في تاريخها علنا، للاعتراف بأن من حق سكان تلك المناطق الرحيل عنها. وما دامت الدولة غير قادرة على حماية السكان فليس بوسعها أن تمنعهم من الرحيل بل تعاظمت الأصوات المنادية بتسهيل هذا الرحيل.
ومن يرد أن يعرف ما جرى في هذا الجانب فعليه معرفة أن إسكان المناطق الحدودية كان على الدوام هدفا صهيونيا من الدرجة الأعلى. يكفي أنه تمت عملية إسكانهم في هذه المناطق خلال حرب 1948 وضمن مفهوم أمن قومي وضمن امتيازات. وطوال الحروب التي جرت، مع الدول العربية والمقاومة، كان الإصرار على البقاء يعتبر فعلا صهيونيا بامتياز. بل انه في حرب الخليج عندما أطلق العراق صواريخ على تل أبيب كان الرحيل من المكان يعتبر عارا. ولكن الأمر لم يعد كذلك الآن عندما يعلن الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين أنه لا يمكن الطلب من الناس البقاء في بيوتهم.
وعندما تجد إسرائيل نفسها بعد حرب من خمسين يوما عاجزة عن حسم المعركة ي فتح الباب واسعا أمام التدخلات الأجنبية. وقد بدأ مجلس الأمن الدولي مشاورات موسعة في ظل حركة دولية تتمثل بعدة مبادرات سواء أميركية أو أوروبية أو حتى عربية لا تجد إسرائيل في أي منها ما يحسن إليها. ففي جميع المبادرات مطالبة قاطعة بوقف النار وفك الحصار. لكن فيها إضافة إلى ذلك محاولة لفرض موقف دولي. وإسرائيل على الدوام كانت تعتقد أنها حصينة ضد كل محاولات فرض المواقف عليها بسبب الموقف الأميركي. لكن حجم الدمار في غزة وصمود أهلها ومقاومتها لم تترك مجالا للشك: إسرائيل عاجزة لوحدها عن حل مشكلتها.
لذلك لا تستغربوا هذا القدر من الجنون الإسرائيلي في التعاطي مع غزة ميدانيا وسياسيا. غزة نموذج تخافه إسرائيل جدا ولذلك فإنها تحاول أن تزرع فيها دمارا لا يقارن بدمار. إسرائيل تخاف جدا من ثقة غزة ومقاومتها بنفسها لذلك تحاول بالجنون التدميري زعزعة هذه الثقة بالنفس. إنها تدمر غزة لتقول لكل من يعاديها، لا تتخذوا غزة نموذجا. ما لا تعرفه إسرائيل، أن غزة لا تملك خيارا آخر سوى استمرار المقاومة إلى أن تنال حقوقها. 294
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية