مع انهيار مفاوضات كامب ديفيد الثانية عام ألفين وعودة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وقتها إلى قطاع غزة ، كانت هذه العودة فاتحة الفصل الأخير في حياة الرئيس ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية على شكلها "الأوسلوي" بعدها اشتدت العمليات العسكرية الفلسطينية  وراحت الساحة كلها في عمليات الفعل ورد الفعل وتطور الأمر ووضِعت الخطة الاسرائيلية الأمريكية لحبس ياسر عرفات في قطاع غزة، وتركه ليُعلن الدولة هناك، والتفرد بالضفة الغربية باعتبارها الخاصرة المهددة لإسرائيل.

 في خضم هذه التطورات أشار المَرحوم اللواء عُمر سُليمان مدير المُخابرات المصرية حينها على ياسر عرفات بضرورة التّوجه إلى الضفة الغربية والمكوث بها خوفًا من حصاره في قطاع غزة، والاستفراد بالضفة الغربية ومن ثم تحويلها إلى أرضٍ تابعة للحكومة الاسرائيلية بأي شكلٍ من الأشكال، خاصة أنّ وجوده في الضفة الغربية سوف يسلط الضوء على الجرائم التي ممكن أن تحدث فيها سواء بالتهويد والاستيطان أو بالعمليات العسكرية هناك، أي أن وجود عرفات في الضفة الغربية هو نوع من المقاومة لهذه الخطة.

- كانت الرؤية واضحة بأن عين اسرائيل مركّزة على الضفة الغربية، لِما لها من أهمية كبيرة سواء على الصعيد الجغرافي وحدودها الطويلة مع اسرائيل، أو على صعيد الأطماع الإسرائيلية التاريخية بها وتقسيمها إلى كانتونات يمكن التحكم بها من خلال إدارة جديدة قديمة كانت تُسمى بروابط القرى، والتي قرر الاحتلال تأسيسها عام 1976 في إطار إضعاف منظمة التحرير وسحب الشرعية الشعبية  حيث كانت تتمتع المنظمة باعتراف كبير بأنها الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، وذلك من خلال إنشاء تجمعات من العائلات الكبيرة في المُدن والمخاتير والشخصيات الاعتبارية في سبيل تقديم الخدمة اليومية للسكان، وتقوم هذه الروابط مقام البلديات بالتنسيق الكامل مع الحاكم العسكري الاسرائيلي، وهي التي ما زالت تفكر به اسرائيل بل تعمل عليه بصورة جديدة الآن، خاصة بعد تصريحات وزير الحرب الاسرائيلي أفيغدور ليبرمان التي نوّه فيها إلى إمكانية  التواصل المباشر مع شخصيات فلسطينية من خلال أعمال "منسق الحكومة في المناطق" ، وعملت وزارة الدفاع الإسرائيلية وفقًا لتصريحاته على بلورة قائمة من أسماء الشخصيات الفلسطينية، أكاديميين ورجال أعمال ورجال دين، رغبة منه لإجراء حوار مباشر معها بشأن إدارة الحياة في مناطق السلطة الفلسطينية في حال انهيارها أو ترك الرئيس عباس مهامه لأي سبب كان.

- لقد تعمدت اسرائيل بعد سيطرة حماس على قطاع غزة وازدادت في ذلك بعد الحرب الأخيرة عليها عام 2014 في رفض التعامل مع حركة حماس في قطاع غزة باعتبارها جماعة ارهابية معادية لها، وبالتالي يُحظر على أي شخص أو مؤسسة التعامل معها،  وإلا تعرض للمحاسبة أو الطرد، وهذا ما حصل لممثل مؤسسة الرؤية العالمية في قطاع غزة والذي تعرض للاعتقال على معبر إيرز في إطار اتهامه باستغلال موقعه الوظيفي في مؤسسة دولية لدعمها.

هذه السياسة خلقت طبقة من رجال الأعمال والتجار وبعض الشخصيات السياسية على التعامل مباشرة مع اسرائيل دون الرجوع إلى حركة حماس بصفتها المسيطرة على الأرض، أو بموافقة مستترة منها، ويتجلى ذلك في المشاريع التي تنفذها دولة قطر في غزة حيث عملت على تشكيل لجنة خاصة للإشراف عليها برئاسة السفير محمد العمادي ، والذي ساعد مؤخرًا في تسليم الموظفين التابعين لحركة حماس في غزة راتب شهر كامل، وذلك بعد استثناء الآلاف من الموظفين العسكريين من قبل اسرائيل بحجج أمنية، وذلك دون أي اعتراض من حركة حماس التي قامت بتسليم كشوفات الأسماء دون أي دور لها في اختيار من سيتسلم الراتب.

ويقاس ذلك أيضًا باشتراط استلام المساعدات التركية من قبل هيئة مستقلة بعيدة عن سيطرة حركة حماس وتوزيعها في ذلك الاتجاه، وكذلك المساعدات التي تأتي عن طريق UNDP  وإعادة الإعمار وأشياء كثيرة.
أي في المجمل عملت اسرائيل على تحويل السلطة الحاكمة في قطاع غزة، إلى مجرد سلطة بلديات لا أكثر، إذا ليس لها أي سلطة فعلية على معابرها أو الأموال والمشاريع التي تدخل إلى أراضيها، مما أفقدها الكثير من شرعية وجودها أمام الجمهور كسلطة تتكفل بمواطنيها وتوفر لهم الحاجات المطلوبة للعيش.

وأيضًا تنعكس هذه الصورة على الشطر الآخر من الوطن الفلسطيني، حيث أن المتابع للأمر في الضفة الغربية يصل إلى قناعة أن اسرائيل قد سحبت البساط من تحت أقدام السلطة الفلسطينية من خلال تخطي "سيادتها" المفترضة على الأرض من خلال الاجتياحات المتكررة ووضع القيادة الفلسطينية في حرج واضح مع الأهالي، وذلك من خلال إصدار التصاريح الخاصة بدخول اسرائيل بمعزل عن دائرة التنسيق والارتباط في السلطة الفلسطينية، بل وصل الأمر إلى إعلان اسرائيل عن أماكن إصدار تلك التصاريح من خلال مكاتب الادارة المدنية المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية،  والتي تعمل على الاسراع بإصدار التصريح المُقدم بشكل شخصي في غضون ساعات، عكس ما يتم تقديمه من خلال السلطة الفلسطينية والذي قد يُرفض أو ينتظر عدة أسابيع للموافقة عليه، مما دفع المواطنون للتعامل المباشر مع مكاتب الإدارة المدنية الإسرائيلية لاستصدار تلك التصاريح بشكل شخصي دون الحاجة إلى المرور بمكاتب الارتباط والتنسيق الفلسطينية، بعد أن وصلوا إلى قناعة بأن السلطة الفلسطينية غير قادرة على حل مشاكلهم اليومية وبالتالي لن تستطيع تحقيق ما تعدهم به من استقلال وتحرير.

هذا الفعل الإسرائيلي المتعمد عمل على إضعاف السلطة الفلسطينية بشكل كبير و"تعريتها" أمام الجمهور الفلسطيني حيث تظهرها وكأنها سلطة بلا أي قوة أو منفعة لهم، بل قد تُعيق مصالحهم اليومية، وحاجاتهم إلى السفر والعلاج والصلاة في المسجد الأقصى.

- هدف اسرائيل هنا واضح جدًا في إظهار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وسلطة حماس في قطاع غزة وكأنهما عبء على المواطن وإنهما ليسا إلا سلطتين ينتفع منهما بعض المسؤولين من خلال المشاريع والامتيازات التي قد يحصل عليها على حساب المنفعة العامة ككل، وأن البديل الذي ستوفره اسرائيل من خلال الإدارة المدنية، هو البديل الوحيد القادر على توفير الخدمات و فتح الآفاق أمام الجمهور الفلسطيني في سبيل الوصول إلى تحقيق ما قاله وزير الدفاع الاسرائيلي ليبرمان: " حُكم علينا أن نعيش جنبًا إلى جنب، لا أحد يريد أن تُلقي زجاجة حارقة عليه في منتصف الليل، أو أن يقتحم أحد بيته في منتصف الليل للتفتيش والاعتقال."
وهنا نتساءل: هل تنجح اسرائيل في إطعام الفلسطينيين لطبختها الجاهزة، أم أنهم سيكتشفون السُم فيها قبل أن يبتلعونها ؟!

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد