فيضان "العسل الأسود" القاتل الذي ضرب مدينة بوسطن الأمريكية

بوسطن/سوا/ قبل نحو مئة عام، اجتاحت موجة عاتية من "دبس السكر"، الذي يُعرف أيضاً باسم "العسل الأسود"، أحد أحياء مدينة بوسطن الأمريكية. في السطور القادمة؛ تبحث (بي بي سي فيوتشر) في عيوب التصميم التي قادت لحدوث هذا الفيضان الغريب والمميت في آن واحد.

يُضمر كلٌ منّا وهو يمارس شؤون حياته اليومية توقعاً منطقياً إلى حدٍ ما، مفاده أن الأشياء المحيطة به ستُبقي على هيكلها ومظهرها متماسكاً.

فنفق القطارات هذا – مثلاً - سيحافظ على شكله، كما سيبقى ذاك الجسر قائماً على ارتفاعه دون تغيير، كما لن يهبط المصعد، الواصل إلى الطابق التاسع والثلاثين، باتجاه الأرض ما لم يطلب منه ركابه ذلك.

ورغم أن المهندسين، الموكل إليهم التحقق من سلامة المباني ومطابقتها للمواصفات، يقومون بعملهم في هذا الصدد بشكل كفءٍ، وشامل على نحو لافت، فإن في التاريخ لحظاتٍ لم تمض فيها الأمور على النحو المنشود، مما أدى إلى نتائج صادمة.

ومن بين الأمثلة على ذلك، ما جرى عندما أدت عيوب في التصميم - على ما يبدو - إلى حدوث أحد أغرب الكوارث الناجمة عن أخطاء بشرية خلال القرن الماضي؛ ألا وهو ما سُمي "فيضان دبس السكر العظيم لعام 1919".

وللتعرف على تفاصيل هذه الكارثة؛ يتعين علينا العودة إلى ذلك العام البعيد، لزيارة حي "نورث إند" بمدينة بوسطن الأمريكية. حينذاك؛ كان من بين المعالم المألوفة للحي؛ خزانٌ هائل الحجم من الصلب، يحتوي على 2.3 مليون غالون (8.7 مليون لتر) من "دبس السكر".

وكان الخزان يُطل على ملعبٍ للأطفال، ومركزٍ للإطفاء، فضلاً عن مبانٍ سكنية. وكانت المادة المُخزّنة في هذا المكان، تأتي من جزر الهند الغربية، لكي يتم تحويلها إلى "إيثانول" يُستخدم على نطاق صناعي، على يد شركة "يو إس إندستريال ألكوهول كمباني" المالكة للخزان.

وكانت الشركة تبيع "الإيثانول" بعد ذلك، ليُستخدم في الذخائر، التي يجري الاستعانة بها خلال الحرب العظمى، والتي عُرفت فيما بعد باسم الحرب العالمية الأولى.

وقد تم تصنيع هذا الخزان بشيء من العجلة. ويقول الكاتب ستيفن بوليو في كتابه "المد قاتم اللون" إن الخزان كان يُسرب قطرات، من تلك المادة اللزجة السوداء من بين الوصلات المبُرشَمة في هيكله. وقد كان أطفال المنطقة، يتوافدون لاختلاس بعضٍ من السائل المتسرب، الذي كان بمثابة نعمة بالنسبة لهم. ولكن هذا أزعج أحد موظفي الشركة المالكة للخزان.

وبعد أربع سنوات مضت على بقاء الخزان في مكانه دون أحداث تُذكر، قامت الدنيا ولم تقعد في 15 يناير/ كانون الثاني 1919.

ففي ذلك اليوم كانت الحياة تسير بوتيرتها المعتادة في "نورث إند"، إلى أن بلغت الساعة 12 و40 دقيقة بعد الظهر، حين سُمعت أصواتٌ تشبه إطلاق نار من سلاح آلي، وآنيناً مُعَذَباً على نحو مروع.

 

وحسبما قالت صحيفة "بوسطن غلوب" في اليوم التالي فقد "وقع الانفجار دون أدنى تحذير .. فبمجرد أن سُمع ذاك الصوت المدمدم الخفيض، لم يجد أحدٌ فرصةً للهرب". فقد انسكب جدارٌ من "دبس السكر"، قيل إن ارتفاعه بلغ 25 قدماً (7.5 أمتار)، منهمراً من الخزان المتصدع.

وقد دمرت هذه الموجة المباني، وجرفت معها البشر، وضربت خطاً للسكك الحديدية ذا مستوى مرتفعٍ عن سطح الأرض كان على مقربة، بقوة أدت إلى التوائه.

ووصفت "بوسطن غلوب" ما حل بالأبنية بالقول: " بدت المباني وقد تداعت جدرانها كما لو كانت مصنوعةً من الورق المقوى". وحمل تسونامي "دبس السكر" الدبق هذا بين طياته ألواح الصلب المقوسة، التي كان يتكوّن منها جسم الخزان؛ لتحطم تلك الألواح كل ما يقف في طريقها.

جانبٌ آخر من وقائع ذلك اليوم الرهيب، يرويها إريك بوستشيل في مقالٍ نشره عام 1983 حول الكارثة، وتناول فيه قصة أحد الضحايا بالقول إن "أنتوني دي ستاسيو؛ كان في طريق العودة للمنزل مع شقيقاته، قادمين من مدرسة مايكل أنغلو، حينما جرفته موجة (الدبس الأسود) وحملته على سطحها قبل أن تُسقطه على قمتها، كما لو كان يمارس رياضة ركوب الأمواج".

ويمضي بوستشيل بالقول: "سمع (أنتوني) صوت والدته تناديه باسمه، لكنه لم يستطع الرد، فحلقه كان مسدوداً بشدة، بفعل السائل اللزج الذي كتم أنفاسه. فقد الوعي، ثم فتح عينيه ليرى ثلاثاً من شقيقاته تحدقن فيه. لقد وجدنّ أنتوني الصغير، ممدداً تحت ملاءة في منطقة تناثرت فيها جثث القتلى على الأرض".

مشهد ما بعد وقوع الكارثة كان لا يُوصف. فقد تراكمت في طرقات الحي، كمياتٌ من "دبس السكر"، يصل ارتفاعها إلى خصر الإنسان، وتزايد سمكها، ما اضطر الناس والحيوانات لبذل جهود مضنية للتحرر منها والتمكن من الحركة.

وعندما انتهت عمليات انتشال جثث القتلى، تبين أن عدد هؤلاء يصل إلى 21 شخصاً، من بينهم ماريا دي ستاسيو؛ شقيقة أنتوني التي لم يكن عمرها يتعدى 10 سنوات، وكذلك ربة منزل في الخامسة والستين من عمرها، قضت نحبها عندما انهار منزلها فوق رأسها. كما خلّفت الكارثة أكثر من 150 جريحاً.

وفي ذلك الوقت؛ تكهن الكثيرون بأن الخزان ربما يكون قد فُجِر على يد فوضويين إيطاليين. ولكن في نهاية المطاف، تبين أن الشركة الأمريكية المالكة له، هي المسؤولة قانونياً عما حدث، وذلك بعد عملية تقاضٍ استغرقت ست سنوات.

وقال أحد الخبراء العديدين، الذين أدلوا بإفاداتهم خلال نظر الدعوى القضائية المتعلقة بتلك الكارثة، إن جدران الخزان كانت أقل سمكاً مما كان يُفترض لها بحسب الخطط الموضوعة لتصنيعه. كما أشار هذا الخبير إلى أن عدد المسامير التي استُخدمت لتثبيت وصلات الألواح المكونة لجسد الخزان ببعضها البعض؛ كانت أقل مما ينبغي.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، عكف رونالد ميفيل، وهو مهندس إنشاءات يعمل في بوسطن، على البحث والتقصي لتحديد الأسباب الدقيقة لتلك الكارثة بشيء من التفصيل، مُستخدماً في ذلك تقنيات حديثة. فهذا الرجل يكسب قوت يومه، من خلال إجراء الاختبارات والحسابات المطلوبة لضمان سلامة المباني التي يتم تشييدها في الوقت الحالي. وبعدما انكب على شهاداتٍ استمعت إليها المحكمة، بشأن كارثة بوسطن، ودُونت على نحو 20 ألف صفحة، خرج ميفيل ببضع تفاصيل ذات دلالة في هذا الشأن.

أحد هذه التفاصيل، يتعلق بالمسامير التي استُخدمت في الربط بين الألواح المكونة للخزان، وهي المسامير التي أدى خروجها من أماكنها على نحو مفاجئ، إلى سماع ما بدا وأنه صوت إطلاق نارٍ، من مدافع رشاشة. المعروف هنا أن إحداث ثقوبٍ في الصلب، لكي تُمرر منها هذه المسامير، يؤدي إلى جعل سطح المعدن في المنطقة القريبة من تلك الثقوب، أكثر هشاشة.

ولمواجهة هذه المشكلة، عادةً ما تُزال هذه الطبقة الهشة، لكي تبقى المناطق المحيطة بالثقوب مُؤلفةً من صلب كامل القوة والمتانة. ولكن من الممكن، أن يكون من تولوا تصنيع الخزان، قد تجاهلوا هذه الخطوة، في غمار تعجلهم للانتهاء من بنائه وتركيبه.

أضِف إلى ذلك حقيقة أنه في كل مرة يُحدِثُ فيها المرء ثقوباً في لوحٍ من المعدن تحت ضغط ميكانيكي، يتراكم ذاك الضغط في هذه الحالة حول تلك الثقوب. فضلاً عن ذلك، كانت هناك كوةٌ في الخزان من نوعٍ يُطلق عليه اسم "الممر". وقد زادت الطريقة التي جرى تثبيتها بها من الضغوط الواقعة على هيكل الخزان.

فبالإضافة إلى الضغط الميكانيكي المتركز حول فتحة بداية الكوة، ثُبِتَ الجزء الخارجي منها، بالجسم الصلب للخزان، على نحو جعل المزيد من الضغط يتراكم على الطرف الأعلى من الثقب الخاص بها، والمثبت بمسامير مبرشمة. ويقول ميفيل إن فحص ما تبقى من جسم الخزان أظهر وجود تعاريج في الصلب بين قمة وقاع هذه الكوة.

ويوضح ميفيل بالقول إنه من المعروف أن هذه التعاريج "تُنشئ على الشظايا المتكسرة من الصلب أسهماً صغيرة تشير إلى المكان الذي بدأت فيه المشكلة" التي أدت لحدوث أي تحطم.

ويمضي ميفيل قائلاً: "كانت هناك شظية كبيرة اندفعت إلى أعلى الكوة، وواحدة أخرى تحتها". وربما كان هذا هو المكان الذي تمزق منه الخزان. فبخلاف ما كان يصر عليه محامو الشركة الأمريكية؛ لم تكن هناك حاجة لقنبلة تنفجر في الخزان حتى ينهار بشكل مفاجئ، فالسبب المحتمل لما حدث كان كامناً في التصميم.

 

كما أن ألواح الصلب المؤلفة لهيكل الخزان، كانت أقل سمكاً بكثير مما ينبغي. ولكن للغرابة، لم تكن هذه الألواح مُصنّعةً على عجل، أو لدى جهة لا تحظى بالثقة، فقد جرى تصنيعها من قبل شركة "هاموند آيرن ووركس" ذات السمعة المحترمة، والتي كانت تحظى بالخبرة فيما يتعلق بتصميم الخزانات التي يُوضع فيها "دبس السكر".

ويقول ميفيل إنه من المحتمل أن يكون هناك سوء فهمٍ قاتل قد حدث في مرحلة مبكرة من مراحل تصميم الخزان، مُشيراً إلى أنه يشتبه في أن يكون مصممو الخزان، قد حَسِبوا أنه سيستخدم لتخزين المياه.

فالمعروف أن "دبس السكر" أكثر كثافة بكثير من الماء، ولهذا يشكل ضغطاً أكبر على جدران الخزان. ولذا فإذا صح ذلك التصور الخاص بأن المصممين اعتقدوا أن الخزان سيُملأ بالمياه؛ فمن شأن ذلك تفسير الكثير مما حل بذاك الحي المنكوب من بوسطن.

وعلى أي حال، لا تزال كل كارثة من هذا النوع، تثير سؤالاً حول السبب المحدد الذي قاد لحدوثها. ولكن منذ وقوع "فيضان دبس السكر" ذاك؛ تطورت قواعد البناء ومعاييره.

بجانب ذلك، شهدت المراجل، التي كان يجري تصنيعها على ذات الشاكلة التي تم بها تصنيع خزان بوسطن المنكوب، العديد من الانفجارات، ما أدى إلى تغيير الطريقة التي تُصنّع بها.

كما أن المعايير الخاصة بتصنيع الخزانات الكبيرة في الوقت الحاضر، تعكس ما تراكم لدينا من معرفة مُستقاة من التحقيقات التي تناولت كارثة بوسطن.

ويقول ميفيل: "من المنطقي للغاية أن يفترض المرء في أي مجتمع أن الأشياء قد صُممت على النحو الصحيح".

ولكن المشكلات تنجم في الأساس عن استخدام شيء ما لغرضٍ مختلف عن ذاك الذي كان في أذهان مصمميه، أو حينما يُنفذ هذا التصميم على عجلٍ، أو بأردأ المواد، أو عندما يكون هناك سوء فهمٍ في مرحلة من مراحل التصميم والتنفيذ؛ أو ربما يكون الأمر ناجماً عن كل هذه العوامل مجتمعة، كما حدث في مأساة فيضان "دبس السكر" العظيم.

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد