الدرس الأساسي الذي لا بد من إدراكه مما جرى من محاولة الانقلاب العسكري على السلطة في تركيا يوم الجمعة الماضي، هو أن الديمقراطية وحدها، بما تتضمنه من ثقافة عامة، هي الضامن للحقوق السياسية للأفراد والجماعات وكذلك الأحزاب، فرغم أن مؤسسة الجيش في تركيا هي واحدة من أهم مؤسسات الدولة والمجتمع التركي، التي تناصب "الإسلاميين" العداء، منذ إعادة تأسيس الدولة التركية على أساس علماني، بعد سقوط حكم إسلاميي الخلافة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، بقيادة مصطفى كمال، الذي لقب بأبي الأتراك "أتاتورك"، ورغم أن تركيا دولة مسلمة، ورثت حكماً مستبداً وارثاً شرقياً / دكتاتورياً، خلال أربعة قرون من حكم العثمانيين، إلا أن الديمقراطية التركية الناشئة، والتي عرفت تداول الحكم والسلطة منذ أكثر من نصف قرن، خلقت قاعدة مدنية حمت النظام أكثر مما فعلت تجاه الحكومة، أي أن الشعب التركي خرج للشارع ضد المحاولة الانقلابية العسكرية للدفاع عن النظام الديمقراطي وليس للدفاع عن أردوغان وحزبه وجماعته، وعبّر عن خياره الديمقراطي أكثر مما عبّر عن اختياره للإسلام السياسي، حيث انه عبر صناديق الاقتراع يعبّر بحرية _ لاحقا _ إن كان سيواصل منح الثقة لأردوغان وحزبه، أم سيحجبها عنه.
هذا الدرس مهم جدا للدول العربية / المسلمة، ولدول الجوار المسلمة أيضا، بما فيها إيران، ولو انه كان هناك ارث ولو ناشئا أو وليدا في سورية، ليبيا، اليمن، والعراق، لكان حجم الضحايا والخراب والخسائر المتعددة أقل، فليس أمراً ليس له معنى أن يحدث التغيير في تونس ومصر بشكل مختلف عما يحدث في مربع الأشقاء  ( ليبيا، اليمن، سورية والعراق). 
وهذا الدرس أكثر أهمية للشعب الفلسطيني، الذي هو أحوج من جميع الأشقاء ومن هم بالجوار للديمقراطية، التي تطلق كل طاقاته الشعبية، وتحفظ له الحيوية والفاعلية لمواجهة أسوأ وآخر احتلال في التاريخ الحديث للبشر، ولعل في مناسبة إطلاق حلقة من حلقات ممارسة الديمقراطية الشعبية العامة، نقصد بها، الانتخابات المحلية، فرصة لتأكيد، ليس فقط جملة من الحقائق، التي نحن _ كفلسطينيين _ بحاجة إليها، ولكن وهذا هو الأهم للتقدم خطوة إلى الأمام، وتغيير اتجاه المسار الخاطئ الذي نسير عليه منذ سنوات، ووقف حالة التدهور الوطني والمراوحة في المكان والدوران حول النقطة ذاتها، لعل وعسى أن يصلح إجراء الانتخابات ما أفسده "دهر" الانقسام! 
إجراء الانتخابات المحلية، رغم انه لا تنتج عنه سلطة مقررة، على المستوى الوطني، نقصد لا تنتج عنها سلطة تشريعية أو تنفيذية، إلا أن إجراءها _ وهذا لم يكن شرطا، وليس شرطا أصلا _ في عموم الوطن ( في الضفة و القدس و غزة ) في آن واحد، يؤكد على وحدة الوطن، التي لا يرغب فيها العدو الاحتلالي الإسرائيلي بالطبع، يؤكد وحدة الوطن، التي لحق بها الضرر الشديد، جراء حدوث الانقسام فعلياً منذ نحو عشر سنوات. فأن يمارس الشعب الفلسطيني على ارض دولته المحتلة، في نفس اليوم فعلا سياسيا، يوّحد الروح، والفعل والممارسة، ويؤكد وحدة الحال، في عموم الوطن. 
كذلك فان إجراء الانتخابات المحلية، رغم أنها لا تنتج عنها سلطة وطنية مقررة سياسيا، أي تنتج عنها مجالس محلية، وليس مجالس وطنية أو مركزية أو تشريعية، إلا أنها تجدد قيادات المجتمع المحلي، ومن خلال الدعاية الانتخابية، تقدم الفصائل والجماعات السياسية والقوى المحلية برامجها وثقافتها، وتعتبر النتائج "حكما" ومعيارا للمزاج الوطني / الشعبي العام. 
وينتج عن الانتخابات المحلية انتخاب قيادات محلية جديدة وشابة، ومن يدري ربما من ينجح بعضوية المجالس المحلية اليوم، ينجح غدا بعضوية "الوطني" أو "التشريعي"، بما يجدّد من هياكل النظام السياسي الفلسطيني برمته فيفعّله ويبثّ فيه روحا جديدة، تجعل منه قادراً على مواجهة فعالة، متجددة للاحتلال. 
لا شك أن ما حصل عليه الدكتور حنا ناصر من ضمانات من الأخ إسماعيل هنية شخصياً، أول أمس، شكل دفعة قوية لإجراء الانتخابات المحلية في الأسبوع الثاني من تشرين الأول القادم، أي بعد اقل من ثلاثة أشهر، ورغم أن السلطة أبدت عزما على إجراء تلك الانتخابات في كل الأحوال، إلا أن موقف حماس الايجابي _ أخيرا _ قد جعل منها فرصة لإعادة الروح في الكل الفلسطيني، ذلك أن "حماس" تبقى _ شئنا أم أبينا _ احد ضلعي ثنائية المعادلة السياسية الداخلية، ومشاركتها بالانتخابات تشعل المنافسة فيها، كما توفر ضمانة حاسمة لمشاركة غزة، أي لإرسال إشارة الوحدة والإنهاء المعنوي للانقسام.
ستشكل الانتخابات أيا تكن نتائجها، التي لن تكون حاسمة بتقديرنا، فنحن نتوقع أن تضم المجالس المحلية بعد الانتخابات كل القوى، بما في ذلك القيادات الجهوية، العائلية والعشائرية، و فتح وحماس في المقدمة، وربما تظفر فتح بالأغلبية في غزة وحماس في بعض مدن وقرى الضفة، أي أن هذه الانتخابات ستحقق الوحدة الداخلية التي تعني عدم استثناء احد _ المهم ستشكل الانتخابات نفسها "بروفة" وتقدم ضمانة، في حال جرت بشفافية ونزاهة، للتقدم على طريق إنهاء الانقسام، بالتشجع لإجراء انتخابات م ت ف والسلطة، أي "الوطني" والرئاسة و"التشريعي".
فيما _ لا قدر الله _ لو تخلل الانتخابات المحلية تزوير أو إكراه، وهذا مستبعد، أو أن نتائجها تمخضت عن إقصاء، فسيشكل ذلك ضربة قاضية لجهود المصالحة، وسيمثل عقبة كأداء في طريق إنهاء الانقسام بإجراء الانتخابات العامة، لذا فان تفاؤلا قد بدأ منذ اليوم، بأن تكون الانتخابات المحلية الخطوة الأولى على طريق إنهاء الانقسام، وتثبيت أركان النظام الديمقراطي الفلسطيني الناشئ والوليد، لعل وعسى أن يضع حدا في النهاية لأسوأ احتلال ما زال قائما على وجه الأرض!
Rajab22@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد