أثارت الصور الملتقطة من مدرسة تابعة لوكالة الغوث في حي الزيتون بمدينة غزة ، خلال زيارة بان كي مون، وتظهر كيف تم تغطية خارطة فلسطين؛ حتى لا تجرح مشاعر الأمين العام كما قال النشطاء، زوبعة من النقاش الغاضب ملحوقة بتصريحات وتوضيحات من جهة وكالة الغوث، دون أن يغير كل هذا من حقيقة الأمر شيئاً. 
الحقيقة المرة أن ثمة من قام بتغطية خارطة فلسطين وإخفائها عن الوجود حتى لو كان الأمر لمجرد دقائق. فالمرارة في أول التذوق، حتى لو زالت. ثمة من قام متبرعاً أو مجتهداً أو مؤتمراً بأوامر من هم أعلى منه بمحاول طمس ذاكرة شعب حتى لا تتأثر مشاعر مسؤول أممي. الحقيقة أن هناك من أراد ولو للحظة أن يقبر مشاعر الفلسطينيين حول حقوقهم التي ساهمت المنظمة الدولية سابقاً بضياعها وتساهم الآن بصمتها المطبق وعدم تحريكها ساكناً في استمرار ضياع هذه الحقوق. 
الحقيقة التي يجب ألا تمر مرور الكرام، ويجب التوقف أمامها طويلاً. لأن من يريد لنا أن ننسى لا يمكن له أن يكون مؤتمناً على ذاكرتنا. الحقيقة التي تقول أن من أراد تغطية الخريطة يريد للجيل القادم أن يغطي قلبه بقطعة قماش سوداء يصير الواقع الحالي الأسود فيها أسهل من تحصيل الحقوق التي لا يمكن لها أن تضيع حتى لو صدر مليون قرار من الأمم المتحدة وحتى لو كان ثمة أسوار أعتي من قبة السماء بينها وبين الواقع.
والواقع أن المنظمة الدولية ذاتها هي من أضاعت فلسطين. إنها هي من أوجدت إسرائيل بقراراتها الجائرة وسمحت بوجودها على أنقاض الشعب الفلسطيني وحطام أحلامه. المنظمة الدولية التي يكاد البعض يقول إنها وجدت من أجل أن تقوم بخلق إسرائيل، وإن مهمتها الوحيدة لم تكن الحفاظ على الأمن والسلم الكونيين بل كانت وجود إسرائيل. المنظمة التي وجدت من رحم نقاط ولسون الأربع عشرة التي لم توافق عليها الإدارة الأميركية بعد ذلك، لم يكن لها هم لا منع الحروب – لأنها لم تفعل- ولا فرض السلم الكوني – لأنها لم تفعل- بل كانت المهمة الوحيدة التي نجحت فيها هي خلق إسرائيل وتشريع خلقها وحمايته. 
هل يمكن تصور وجود إسرائيل دون قرار التقسيم ودون جملة القرارات الأممية التي أول نصوصها تقر بحق إسرائيل في الوجود وبعد ذلك تأتي كل الأشياء الأخرى. المنظمة الدولية التي اعترفت بإسرائيل عضواً كامل العضوية فيها وحرمت الفلسطينيين الحق ذاته على الرغم من أن عضوية إسرائيل مشروطة بإقرارها بالقرار 194 وبالدولة العربية في فلسطين وفق قرار التقسيم، إلا أنها رأت – لأنها خلقت لذلك- أن تمنح إسرائيل عضوية وأن يظل الشعب الفلسطيني طوال سبعين عاماً تقريباً يبحث عن عضوية غير كاملة تمنح لها بشق الأنفس. إنها ذات المنظمة التي لا يجب أن تستغرب أن يقام بتغطية خارطة فلسطين على جدرانها.
عودة للنقاش حول من قام بذلك. إنه نقاش أبله. فليس مهماً من قام بذلك طالما أن الأمر تم. هل يفرق كثيراً إذا كان الموظف الذي قام بتغطية الخريطة قد أخذ قراراً من مسؤول أجنبي في المنظمة أم من مسؤول محلي؟ أم هل يهم كثيراً إذا ما كان ارتجل الأمر من رأسه أم أنه فعلاً تلقى تعليمات بذلك؟ أم هل يهم إذا كان الأمر مقصوداً أم لغايات بروتوكول المؤتمرات الصحافية؟ أم هل يهم أي شيء آخر إذا ما كانت النتيجة أن ثمة من يريد للذاكرة أن تأخذ إجازة وتسافر في النسيان؟ أم هل يهم كل التبريرات أما فظاعة الحادثة؟!
تخيلوا لو أن الموظف العربي الذي قام بالأمر قام به من تلقاء نفسه سواء كان الموظف رفيع المستوى أم مجرد موظف في المدرسة، أفلا يكون الأمر أكثر شناعة! أن يقوم موظف فلسطيني بتغطية خارطة فلسطين. ربما أن مشاعر بان كي مون لم تكن لتجرح من الخارطة، أو ربما أن الرجل لن يراها، ولكن الحريص أكثر من اللازم فكر بذلك، تخيلوا كيف اجتهد الرجل فقام بمثل من قطع رأسه من أجل ألا يضطر الآخرون لرؤية وجهه. هل يمكن أن يكون هذا قد حث! ولو كان قد حدث أفلا يكون أكثر بشاعة من أن يقوم بان كي مون بتغطية الخارطة. 
وماذا لو كان فعلاً ثمة قرار فوقي بتغطية الخارطة؟ أفلا يكون الأمر أكثر بشاعة أيضاً. لأن المنظمة الدولية التي أضاعت فلسطين لا يحق لها أن تقوم بمساعدة إسرائيل بمسح ذاكرة الشعب الفلسطيني. 
وليس من حقها أن تقرر لنا ما نقر أنه وطننا طالما أنها تحجم عن منحنا الحق في دولة خاصة بنا على الجزء المتاح لنا من أرض الآباء والأجداد، وطالما أنها عاجزة عن إجبار إسرائيل – وليدة قراراتها- على تنفيذ قرار واحد من تلك التي تتعلق بالصراع إلا ذلك الذي يقر عضويتها في الجمعية العامة. المنظمة الدولية لا بد أن موظفيها يرون صباح مساء في المكاتب الإسرائيلية خارطة إسرائيل التي تبتلع فلسطين كلها وجزءاً من سورية ولم نسمع أنهم احتجوا على ذلك.
خلاصة القول في كل ذلك، إن ما حدث كان مسيئاً بكل الأشكال. ولم يكن تبرير الوكالة الدولية ولا ناطقيها ليصل أدنى مستويات احترم المشاعر الوطنية الفلسطينية. ومن المحزن أن الفصائل الفلسطينية لم تأخذ الأمر على محمل الجد، وكان وكالة الغوث قدر منزل، خاصة وهي تقوم بتخفيض خدماتها. الوكالة حق للشعب الفلسطيني على العالم الذي نهب فلسطين منه. وهي مؤقتة ومهمتها محددة ووجودها دليل على إقرار العالم بجريمته، وبالتالي فهي ليست منة من أحد بل القليل مما يجب أن يقوم به المجتمع الدولي للحفاظ على كبريائه الذي دساته إسرائيل. وخارطة فلسطين التي تشبه جسد المواطن الفلسطيني المرهق من النكبة ستظل خارطة فلسطين ولن يغير من ذلك أي حقيقة، لأن لا حقيقة سواها.
لا بد أن من عاشوا طفولتهم مثلي في مخيم تابع لوكالة الغوث قد لهوا في أزقة المخيم بلعبة "مين محا الخريطة" التي يحاكي عنوان المقالة اسمها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد