7-TRIAL- كتبت في المقال السابق أن المقاومة انتصرت، وذلك قبل أن نعرف القراءة الإسرائيليّة للحرب، وكيف أن حكومة نتنياهو ترى أنها انتصرت، بينما غلب على الرأي العام الإسرائيلي أن نتيجة الحرب هي التعادل، بدليل أن إسرائيل لم تحقق أهدافها، مع رأي قوي داخل الحكومة الإسرائيليّة وخارجها يقول إن المقاومة الفلسطينيّة انتصرت.
في هذا المقال سأحاول أن أوضح مدى الانتصار وكيفيّة استثماره. لقد انتصرت المقاومة في النقاط وليس بالضربة القاضية، وأخذ الانتصار شكل إحباط أهداف العدوان، مع أن المقاومة لم تستطع حتى الآن تحقيق أهدافها، وما لا تحققه في ميدان الحرب يَصعُب تحقيقه على طاولة المفاوضات.
في هذا السياق فقط نستطيع تفسير: لماذا وافقت المقاومة على التهدئة في المرتين الأولى والثانية قبل تحقيق أهدافها كما كانت تطالب؟ وهذا ليس خطأ، لأن المقاومة يجب أن تفحص بالحد الأقصى إمكانيّة تحقيق جميع مطالبها قبل أن توافق على ما يمكن إنجازه من هذه المطالب، لأن القبول بالمعروض و"الممكن" يؤدي إلى خسارة كل شيء وعدم تحقيق أي شيء، لذلك من الضروري استمرار اليقظة والاستعداد لكل الاحتمالات، بما فيها استمرار الحرب، والحرص على عدم إعطاء إسرائيل أي صورة انتصار بعدم تمكينها من وقف الحرب متى وكيف تريد. يكفي المقاومة أنها صمدت وقاومت مقاومة أسطوريّة وفاجأت الجميع، وكبّدت الاحتلال خسائر فادحة، وأسقطت نظريّة الردع الإسرائيلي، لكن غزة لا يمكن أن تتحمل وحدها عبء تحرير فلسطين أو الأراضي المحتلة العام 1967.
بالرغم من ذلك علينا أن نستعد لاحتمال ألا تحقق المقاومة كل أهدافها قبل التوقيع على هدنة دائمة. فإسرائيل ممثلة برئيس الحكومة ووزير الحرب ورئيس الأركان تدّعي أنها انتصرت في الحرب، ولكي تبرهن على هذا الادعاء تحاول أن تحول دون تمكين المقاومة من تحقيق أهدافها؛ لذلك طرحت إسرائيل مدعومة من أميركا وأوروبا والمجتمع الدولي، وبتأييد ضمني أو صريح من أطراف عربيّة، ضرورة نزع سلاح المقاومة في غزة فورا، أو على المدى البعيد، على أن يتم في المدى القريب، على الأقل، عدم تمكين المقاومة من تعويض خسائرها من الأسلحة وبناء الأنفاق وتجديد قدراتها استعدادا للجولة القادمة الآتية بلا ريب؛ بما أن الاحتلال والاستعمار قائم، وما دامت الحكومة الإسرائيليّة ترفض أي تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة.
لضمان عدم انتصار المقاومة، تطالب إسرائيل بإقامة نوع من الرقابة الدوليّة على المواد التي ستدخل إلى غزة حتى لا تستخدم في تصنيع السلاح وبناء الأنفاق، وترفض بناء الميناء والمطار و فتح الممر الآمن بين الضفة وغزة، وتدّعي أنها تقبل برفع الحصار أو تخفيفه بشكل جدي إذا عادت السلطة التي يقودها الرئيس أبو مازن إلى حكم قطاع غزة، وبذلك كله تحاول إسرائيل بث الفتنة في صفوف المقاومة وبين الفلسطينيين وبينهم وبين مصر من أجل فرض العزلة العربيّة والإقليميّة والدوليّة على المقاومة، تمهيدا لنزع سلاحها والقضاء عليها، فما تريده إسرائيل هو تعميم نموذج الضفة على غزة، بينما ما يريده الفلسطينيون زجّ جميع الطاقات الفلسطينيّة في الضفة وغزة وفي كل مكان لمواجهة الاحتلال وتحقيق الأهداف الوطنيّة الفلسطينيّة. في ضوء ما تقدم وغيره مما لا يتسع هذا المقال لعرضه على المقاومة أن تختار بين:
إما أن تواصل موقفها وتصرّ على تحقيق مطالبها كاملة - مع احتمال عدم نجاحها في ذلك - مراهنة على إنجازاتها وقدرتها على الصمود واستمرار المقاومة، وعلى خشية إسرائيل من حرب الاستنزاف، وعدم رغبتها بالعودة إلى الحرب البريّة أو إلى سيناريو احتلال غزة، ومن تحول الهبة الشعبيّة المناصرة لغزة في الضفة إلى انتفاضة، وما يمكن أن يقود إليه ذلك من مواقف تعزز الوحدة الفلسطينيّة، ويمكن أن تؤدي إلى وقف التنسيق الأمني، والانضمام لمحكمة الجنايات الدوليّة، والتركيز على المقاومة والمقاطعة التي تصاعدت بمعدلات كبيرة جدا، وعلى تعاظم حركة التضامن مع القضيّة الفلسطينيّة وضد العدوان والجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وما يمكن أن يؤدي إليه كل ذلك من تداعيات عربيّة وإقليميّة ودوليّة.
وإما أن تقبل المقاومة بما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة مع مواصلة الكفاح بأشكال أخرى لتحقيق ما تبقى، وهو لا يجب أن يقل عن تخفيف ملموس للحصار ووضع آليّة جديدة لفتح المعابر، وفتح ممر حر وآمن بين الضفة وغزة، وامتناع إسرائيل عن تنفيذ عمليات مثل الاغتيالات وقصف الأنفاق، وتوسيع مساحة منطقة الصيد، وإطلاق سراح الأسرى بالاستفادة من وجود جثة أحد الجنود وأسر جندي آخر (إذا كان لا يزال على قيد الحياة)، وربط كل ذلك بالكفاح لإنهاء الاحتلال من خلال تحقيق وحدة وطنيّة حقيقيّة تسمح بالشراكة السياسيّة في المشروع الوطني والمنظمة والسلطة مقابل عودة السلطة إلى غزة.
على المقاومة أن تختار وفي الوقت المناسب، وعليها ألا تغامر أو تقلل مما يمكنها تحقيقه، فهي أنجزت ولكنها قد لا تستطيع في هذه الفترة تحقيق كل مطالبها، وشيء أفضل من لا شيء. وهنا نحذر من يريد أن يُكَسِّر مجاديف المقاومة من خلال القول إن عدم موافقتها على المبادرة المصريّة عند طرحها أدّى إلى مضاعفة الخسائر بشكل رهيب، وكان بالإمكان قبولها وتجنيب قطاع غزة النكبة التي حلت به. هذا القول مردود على أصحابه، لأن خطأ المقاومة ليس في رفض المبادرة المصريّة، وإنما في توقيت وكيفيّة رفضها، وربط هذا الرفض بهجوم ضارٍ على مصر وكأنها هي العدو، ما قد يشكل خدمة لمصالح محور عربي إقليمي وضد محور آخر.
كان بمقدور المقاومة أن تنتظر قبل إعلان رفضها لرؤية حقيقة الموقف الإسرائيلي، وهل هو جاد في قبول المبادرة المصريّة قبل الحرب البريّة ومحاولة تحقيق إسرائيل لأهدافها التي عجزت عن تحقيقها عبر الحرب الجويّة كما كانت تأمل وتخطط. وكان يمكن أن يأخذ الرفض الفلسطيني شكل القبول للمبادرة من خلال تعديلها عبر المذكرة التفسيريّة كما حصل بعد ذلك. لو قبلت المبادرة المصريّة عند تقديمها لكان هذا استسلاما للمقاومة، ولما كنا الآن في الوضع الذي نحن فيه، حيث أدت ملحمة الصمود والمقاومة الأسطوريّة إلى عودة القضيّة إلى مكانتها في الصدارة كقضيّة تحرر وطني، وإلى إعادة الاعتبار للمقاومة والإنسان الفلسطيني، وتحقيق درجات ملموسة من الوحدة الفصائليّة ووحدة الشعب في جميع أماكن تواجده.
هناك رأي آخر يتردد يطالب أصحابه بعدم المطالبة بالمطار والميناء، بحجة أن هذه مطالب للاتفاق النهائي وليس ممكنة في المفاوضات الراهنة لوقف إطلاق النار، أو أن هذا الأمر إذا تحقق سيقيم الدولة في غزة على حساب الضفة، أو رمي غزة في حضن مصر وتعميق فصلها عن الضفة، أو سيقيم إمارة إسلاميّة كجزء من المشروع الإسلامي الذي تجسده جماعة الإخوان المسلمين، أو يعمل على تحقيق الحل الانتقالي طويل الأمد متعدد المراحل الذي طالما دعا إليه شارون، ويهدف إلى قطع الطريق على أي تسوية تتضمن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة وحل مشكلة اللاجئين على أساس التعويض والعودة.
هناك فرق بين أن يقال إننا لا يمكننا إقامة ميناء ومطار الآن، رغم أنهما حق سبق تحقيقه كأحد استحقاقات اتفاق أوسلو وليس في الاتفاق النهائي، وتحقيقه الآن بالترافق مع الحفاظ على المقاومة وتعميق الوحدة الوطنيّة سيكون خطوة واسعة إلى الأمام نحو تجسيد المشروع الوطني.
لا يجب التسليم بعدم تحقيق إقامة الميناء والمطار من دون السعي لذلك ببذل أقصى الجهود والإمكانيات، وعدم ترديد الخبل السابق الذي أشرنا إليه، فإسرائيل أعادت نشر قواتها في غزة العام 2005 من أجل التخلص من غزة والتفرغ للضفة، وأتت الأحداث لتدل على أن غزة تطارد إسرائيل، بدليل الحروب الثلاث التي حدثت منذ "الانسحاب" الإسرائيلي من غزة. فإسرائيل تريد غزة من دون مقاومة حتى تحقق هدفها بفصلها عن الضفة وقطع الطريق على إقامة دولة فلسطينيّة على جميع الأراضي المحتلة العام 1967.
الأمر الحاسم الذي له أولويّة هو تحقيق وحدة وطنيّة حقيقيّة تنشأ منها قيادة واحدة تقود كل الشعب الفلسطيني وتمزج بين كل أشكال النضال والعمل السياسي حتى تحقق الأهداف الوطنيّة، وهذا هدف أصبح بعد العدوان الإسرائيلي هدفا قابلا للتحقيق، وهذا من أهم إنجازات هذه الحرب.
Hanimasri267@hotmail.com 9

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد