جردة حساب، ثلاثون عاماً، ثلاثمائة وستون شهراً، مئات آلاف الأيام، وملايين الساعات وأجزائها، تمضي متثائبة. 
جردة حساب، تمضي السنون وأتغير، أتشرب الفقد جرعةً زائدة في الوريد، أدرك وقع خطوات حزيران قبل أن تبدأ. أدركها بحواسي الرقمية. أنْسِلُ خيوطها «خيطاً فخيطاً». بينما أسحب في كل يوم ورقة من أوراق «روزنامتك»، شيء منك يطفو على سطحها.. أو هكذا يُخيَّل لذهني الشارد. 
جردة حساب، ما زلت أراك بلون بسمتك في الصورة المعلقة على الجدار، أعرف لماذا بدوت ساخراً، بينما تقهقه معرضاً بخوفي: «صورة تليق بشجاعة الملصق». 
جردة حساب، لم أتوقف عن تنفسك بلون اكليل زهور تتساقط عليه أوراق عمري واحدة تلو الأخرى. لم أتوقف عن الكتابة لك، أراك بكل أوراقي ومراجعي. أسافر نحوك بوسائط نقل راقصة على أنغام وعجلات من خيال. أصطحبك الى أقاليم السماء، وأهربك في حقائبي إلى بلاد التأمل.
غيابك أصابني بمتلازمة التوحد، أصبحت منحازة لعالم آخر، أعبُرُ ذاتي بخيال الوعي واللاوعي، لتصبح أنت تفاصيل حاضري ومستقبلي.
جردة حساب، فقدك جعل مني كاتبة، أشتق من المعاجم حروفا غير الحروف، طوّرت لغة جديدة أختزل خلالها الزمن، واخترق على أجنحتها الفوارق والمسافات. وجعلت الحواجز بينك وبيننا مصطنعة تماما. جعلنا الموت يتداخل مع الحياة، والمسافة بيننا تصبح تراباً وقشوراً.
جردة حساب، ما زلت الأب وقد أصبحت جداً لمن يسكنون أحداقي، نقشت وجهك بأقلامي على نور عيونهم. تنير طريقهم مع خُصَل الشمس، وجعلتك تتسلل كلما رأيتُ واحداً منهم.. أسمع صوتك مختلطاً بأصواتنا، أنا واولادنا وأحفادنا، ديمة وغيث وفارس وليث وجاد. 
جردة حساب، لم تكتفِ من الموت، ولم أكتفِ من الرثاء. تفرغتُ للندب وتفرغتَ أنت للموت. تعال نتبادل المواقع، كسراً للروتين الذي أكل يومياتي، بينما أنت هناك مستمتع بموتك.
جردة حساب، أتُراك تعبت مني، أتراك مللت من تلصصي عليك ودوراني حولك.. لم أترك لك متنفساً للتنفس مع حوريات جميلات..
جردة حساب، تدور بي الدنيا ﺣﻮﻝ محور واحد. أعمل على مواكبة دورانها كما رغبت، وأستمر في مرافقة دورانها علينا بعدك، لكني لا أشعر بالدوار. تعبت من الزمان، لكن لا شيء أمامي سواه ولا زلت أجهل سرّ أيّامي.
في الذكرى الثلاثين، تعالَ نتبارى. مَن الأكثر وفاءً، مَن الأقل خوفاً من البرد والجمر، نتبارى في الاحتمالات والتقلبات. من يخاطر بالتقدم نحو الآخر أكثر..أنت لا تتقدم خطوة واحدة نحوي!
تعال نتبارى، من يكتب أكثر عن الوجع، من يعصر نفسه أكثر، من يقلب الصفحات العتيقة، ومن يقض مضجع الآخر. من يشعل أصابعه العشرة ليوم اللقاء.! 
تعال نتبارى ونتناظر، عن الحب في أصعب حالاته، في رشق التراب على الرأس، في استعادة التاريخ والذكريات وفي التفرغ للندب، تعال نتبارى، في رقصة الديك المذبوح وفي كتابة العذابات في سطور وحروف لا تشتكي من الذبول.
تعال نتبارى ونتناظر، نكتب الكلمات على تراب معجون بالأمنيات، ونرى من أحسن تعبيراً، من لديه القدرة البلاغية أكثر، من يتمكن أكثر في تضخيم الصور والبلاغة. من يغصُّ أكثر ومن يبوح ويكاشف أكثر..من يمضي موغلاً ومتوغلاً في رحلة المواجع، أكثر وأكثر.
تعال نتبارى ونتناظر، فقد تكون المناظرة الأخيرة والمكاشفة، نتعقب هموما وأحمالا يمكن تعميم وجعها على الفلسطينيين وتتحدث بلسانهم. ستأخذنا المناظرة في مقارنات ومفاضلات بين الماضي والحاضر، بين الخاص والعام. تعال نتسابق في سباق وديّ، دون أن نهتم بإعلان النتيجة: من الغالب والمغلوب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد