باستثناء بعض الدوائر اليمينية المحافظة في الولايات المتحدة وبدرجة أقل بكثير في أوروبا، فإن أحداً في هذا العالم لن يصدق لغة «الاعتدال» التي نزلت فجأة على كل من نتنياهو وليبرمان، وهذه «المرونة» التي أبداها الرجلان بصورة درامية مباغتة.
اللعبة لن تنطلي على أحد سوى من يرغب بإرادته أن تنطلي عليه.
أدرك نتنياهو أن المجيء بليبرمان سيغلق عليه كل الأبواب والنوافذ والقنوات، وأدرك أن هامش مناوراته الذي «توفره» حالة التطرف السائدة والطاغية في هذا الائتلاف لن تزيد إسرائيل إلاّ عزلة ومحاصرة سياسية، خصوصاً بعد تصريح الإدارة الأميركية حول حالة هذه الحكومة حين وصفتها في إشارة ملفتة بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل.
إذن لا بد وأن شيئاً جرى لكي ينزل على نتنياهو ووزيره الجديد «وحي» «الاعتدال» المفاجئ.
أغلب الظن هنا أن «لغة» الاعتدال كانت في الواقع جزءاً من الصفقة التي عقدها نتنياهو مع كل من ليبرمان وبينيت، بحيث لا تكون لهذا «الاعتدال» أية ارتدادات سياسية أو اعتراضات جدية، وذلك بهدف المحافظة على تماسك هذا الائتلاف لأطول فترة ممكنة، طالما أن هذه المحافظة بالذات هي الهدف الأساسي والمحرك الرئيسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي وكل المناورات والألاعيب التي تكثف جوهر براعته السياسية التي تكرس هدف بقائه في سدة الحكم لأطول ما يمكن من الوقت، لكي يتمكن من «الإجهاز» على حقوق الشعب الفلسطيني بأعلى قدر ممكن، وللاستفادة والاستثمار الأمثل لوجود هذا التحالف المتطرف في الحكم، ولحالة الهشاشة الفلسطينية القائمة في ضوء تعمق حالة الانقسام الداخلية، إضافة إلى حالة الإقليم العربي التي يمكن وصفها بالوهن والدمار والتمزق والانكسار التام أمام إسرائيل والإدارة الأميركية.
إذن، كل ما في الأمر هو محاولة لكسر حال العزلة القائمة والتي «كانت» متوقعةً بعد انضمام ليبرمان إلى هذه الحكومة، ولمحاولة «تحسين» صورة إسرائيل في الإقليم و»إعطاء» دول الإقليم «فسحة» من الأمل بأن عملية السلام ما زالت قائمة أو يمكن أن تبقى قائمة على الرغم من انضمام ليبرمان إلى الحكومة، ولكي «يشجع» نتنياهو العرب على «إجراء» بعض التعديلات على مبادرة السلام العربية، وبذلك يحصل نتنياهو على القدر المطلوب من «الانفراج» في علاقاته الإقليمية، ويحصل على «تنازلات» جديدة من خلال مراهنته على تلك التعديلات، وكل ذلك مقابل «اعتدال» لفظي مبطن من المستحيل تحوله إلى واقع سياسي جديد أو إلى مواقف حقيقية متعارضة مع النهج الأيديولوجي والسياسي لحكومة التطرف والعنصرية القائمة في إسرائيل.
وليس مستبعداً أبداً أن يكون هذا «الاعتدال» اللفظي الخالي من أية نوايا حقيقية للتوجه إلى سلام حقيقي يهدف إلى إجهاض التحرك الدولي في صورة الاجتماع القادم في باريس، وصولاً إلى إجهاض كامل التوجه الدولي لعقد المؤتمر الدولي في الخريف القادم.
علينا أن نعترف بأن هذا «الاعتدال» المفاجئ على مستوى اللغة والألفاظ والتفوهات الإعلامية ليس قليل التأثير بالمقارنة مع لهجة التطرف والعنصرية التي سادت الخطاب السياسي الإسرائيلي.
فبمجرد وجود لغة سياسية معتدلة نسبياً سيحقق نتنياهو الكثير من الأهداف التي أشير إليها إضافة إلى أهداف داخلية إسرائيلية أخرى.
أهم هذه الأهداف الداخلية هو قطع الطريق على المعارضة من الناحية السياسية الخارجية، وخصوصاً الإقليمية منها.
لقد لاحظ نتنياهو أن صورة اليمين المتطرف يجب أن تتغير، كما أن الخطاب السياسي يجب أن يتغير. ومهما كانت ألاعيب نتنياهو مكشوفة إلاّ أن مجرد التغيير اللفظي سيساهم في فك العزلة نسبياً عن هذه الحكومة، وسيثير من الغبار ربما بما يكفي للتغطية على سياسات هذه الحكومة من استيطان وتهويد وما تقوم به من ممارسات ترقى إلى جرائم الحرب ضد شعبنا الصامد.
بانضمام ليبرمان إلى الحكومة وبخطاب عنصري متغطرس كانت هذه الحكومة ستسقط في وقت قياسي أو انها ستعزل إسرائيل عن العالم بالكامل ولكن، بخطاب «اعتدال» في اللغة والألفاظ ستتمكن إسرائيل من التعايش مع المحيط الإقليمي والدولي لفترة أطول، ما يعني أن الأمر كله يتعلق بمدى استجابة الطرف الفلسطيني والإقليمي والدولي للخديعة التي تنطوي عليها لغة الخطاب اللفظي الجديد.
هم يتعلقون بقشة ولا أحد يستطيع أن يمدّ هذه القشة سوانا.
فلسطين هي أساس كل تغير وكل تحول وكل هزة سياسية في إسرائيل، وليس سعر الشقق السكنية كما كان يبدو عليه الأمر أحياناً.
إذا عرفنا كيف نحشر نتنياهو فلن تفيده أية ألاعيب ولن يخرج سالماً كما يعتقد.
فلسطين في الواقع هي التي ستحدد لنتنياهو العمر الذي سيبقى لهذا التطرف وهذه الحكومة إذا عرفت كيف تدير الصراع في المرحلة القادمة. مرحلة الخدعة والمراوغة واللعب بالألفاظ.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية